موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الحيَلُ لا تُحيلُ الحُقوقَ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: الحيَلُ لا تُحيلُ الحُقوقَ [3643] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/152)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (8/241). ، وصيغةِ: الحيَلُ لا تُحِلُّ حَرامًا، ولا تُحَرِّمُ حَلالًا [3644] يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويهـ)) للكوسج (9/4746). ، وصيغةِ: الأصلُ أنَّ الحيَلَ لا تُسقِطُ الزَّكاةَ ولا تُبيحُ الفُروجَ ولا الأموالَ [3645] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (3/49). ، وصيغةِ: الحيَلُ كُلُّها -لإسقاطِ واجِبٍ، أو لارتِكابِ مُحَرَّمٍ- باطِلةٌ [3646] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/459). ، وصيغةِ: كُلُّ حيلةٍ تُنصَبُ لإسقاطِ ما أوجَبَه اللهُ أو تَحليلِ ما حَرَّمَه فهيَ باطِلةٌ [3647] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 263). ، وصيغةِ: كُلُّ حيلةٍ يُتَحَيَّلُ بها على إسقاطِ فرضٍ مِن فرائِضِ اللهِ، أو حَقٍّ مِن حُقوقِ عِبادِه، لا يَزيدُ ذلك الفَرضَ إلَّا تَأكيدًا، وذلك الحَقَّ إلَّا إثباتًا [3648] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/175-176). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الحيَلُ: جَمعُ حيلةٍ، وهيَ مَأخوذةٌ مِنَ التَّحَوُّلِ؛ لأنَّ بها يَتَحَوَّلُ فاعِلُها مِن حالٍ إلى حالٍ بنَوعِ تَدبيرٍ ولُطفٍ يُحيلُ بها الشَّيءَ عن ظاهرِه، وهيَ عِبارةٌ عنِ الحِذقِ في تَدبيرِ الأُمورِ بتَقَلُّبِ الفِكرِ حَتَّى يُهتَدى إلى المَقصودِ.
وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ كُلَّ حيلةٍ تَتَضَمَّنُ إسقاطَ حَقٍّ للَّهِ أو لآدَميٍّ فهيَ مِمَّا يُستَحَلُّ بها المَحارِمُ، بأن يَقصِدَ حِلَّ ما حَرَّمَه الشَّارِعُ، أو سُقوطَ ما أوجَبَه، كَأن يَأتيَ بسَبَبٍ نَصَبَه الشَّارِعُ سَبَبًا إلى أمرٍ مُباحٍ مَقصودٍ، فيَجعَلَه المُحتالُ المُخادِعُ سَبَبًا إلى أمرٍ مُحَرَّمٍ مَقصودٍ اجتِنابُه. فيَحرُمُ مِنَ الحيَلِ كُلُّ ما يُبطِلُ الحُقوقَ الثَّابِتةَ، كَأن يَحتالَ الرَّجُلُ في حَقٍّ لرَجُلٍ حَتَّى يُبطِلَه، أو يَحتالَ في باطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَه، أو يَحتالَ في حَقٍّ حَتَّى يُدخِلَ فيه شُبهةً.
وهذا حَرامٌ مِن وجهَينِ: مِن جِهةِ غايَتِه، ومِن جِهةِ سَبَبِه:
أمَّا غايَتُه: فإنَّ المَقصودَ به إباحةُ ما حَرَّمَه اللهُ ورَسولُه، وإسقاطُ ما أوجَبَه.
وأمَّا مِن جِهةِ سَبَبِه: فإنَّه اتَّخَذَ آياتِ اللهِ هُزُوًا، وقَصَدَ بالسَّبَبِ ما لَم يُشرَعْ لأجلِه، ولا قَصَدَه به الشَّارِعُ، بَل قَصَدَ ضِدَّه، فقد ضادَّ الشَّارِعَ في الغايةِ والحِكمةِ والسَّبَبِ جَميعًا.
ثُمَّ إنَّ هذا النَّوعَ مِنَ الحيَلِ يَتَضَمَّنُ نِسبةَ الشَّارِعِ إلى العَبَثِ، وشَرعِ ما لا فائِدةَ فيه إلَّا زيادةُ الكُلفةِ والعناءِ؛ فإنَّ حَقيقةَ الأمرِ عِندَ أربابِ الحيَلِ الباطِلةِ: أن تَصيرَ العُقودُ الشَّرعيَّةُ عَبَثًا لا فائِدةَ فيها؛ فإنَّها لا يَقصِدُ بها المُحتالُ مَقاصِدَها التي شُرِعَت لَها، وإنَّما غَرَضُه التَّوصُّلُ بها إلى ما هو مَمنوعٌ مِنه، فجَعَلَها سُترةً يَتَسَتَّرُ بها مِنِ ارتِكابِ ما نُهيَ عنه، فأخرَجَه في قالبِ الشَّرعِ، فكُلُّ صاحِبِ باطِلٍ لا يَتَمَكَّنُ مِن تَرويجِ باطِلِه إلَّا بإخراجِه في قالبِ حَقٍّ. والمَقصودُ: أنَّ أهلَ المَكرِ والحيَلِ المُحَرَّمةِ يُخرِجونَ الباطِلَ في القَوالِبِ الشَّرعيَّةِ، ويَأتونَ بصورِ العُقودِ دونَ حَقائِقِها ومَقاصِدِها [3649] يُنظر: ((المخارج في الحيل)) للشيباني (ص: 94)، ((المبسوط)) للسرخسي (30/210)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/659) و(2/778)، ((الموافقات)) للشاطبي (1/446)، ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص: 150)، ((الحيل)) لمحمد بحيري (ص: 31). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والإجماعِ:
1- من القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة: 231] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ الكَريمةَ نَزَلَت بسَبَبِ مُضارَّةِ الزَّوجاتِ بالارتِجاعِ بقَصدِ أن لا تَرى بَعدَه زَوجًا آخَرَ مُطلَقًا، وأن لا تَنقَضيَ عِدَّتُها إلَّا بَعدَ طولٍ؛ فكان الارتِجاعُ بذلك القَصدِ؛ إذ هو مانِعٌ مِن حِلِّها للأزواجِ، وهذا إنَّما يَظهَرُ حَسَبَما كان عليه الأمرُ قَبلَ نُزولِ آيةِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فقد كانوا يُطَلِّقونَ ويَرتَجِعونَ لا إلى حَدٍّ، فيُضارُّونَ الزَّوجاتِ بذلك، فلا يَضُمُّها الرَّجُلُ إلَيه، ولا يَدَعُها تَتَزَوَّجُ [3650] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/446)، ((الحيل)) لمحمد بحيري (ص: 64). .
- وقال اللهُ تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عليْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عليْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم: 17-33] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ حَصادَ النَّخلِ مُباحٌ في أيِّ وقتٍ أرادَ صاحِبُه، لَكِن لَمَّا فعَلَه أصحابُه في اللَّيلِ قَصدًا إلى حِرمانِ الفُقَراءِ مِن حُقوقِهم عاقَبَهمُ اللهُ تَعالى بإحراقِ بُستانِهم؛ فإنَّهم لَمَّا قَصَدوا إلى هذا الاحتيالِ بتَحَرِّي الوقتِ الذي لا يَحضُرُ فيه الفُقَراءُ عادةً، كان تَحَرِّيهم هذا مانِعًا مِن إفضاءِ السَّبَبِ إلى حُكمِه؛ قَصدًا مِنهم لحِرمانِ المَساكينِ، فعاقَبَهمُ اللهُ تَعالى بنَقيضِ مَقصودِهم. فدَلَّ هذا على أنَّ التَّوصُّلَ بالسَّبَبِ المَشروعِ في ظاهرِه إلى ما حَرَّمَ اللهُ تَعالى مِن إسقاطِ فرائِضِه يُعطى حُكمَ المَقصودِ مِنه في العُقوبةِ والتَّحريمِ [3651] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/446)، ((الحيل)) لمحمد بحيري (ص: 102). .
2- مِنَ الإجماعِ:
وقد نَقَله ابنُ تَيميَّةَ [3652] قال: (الاحتيالُ على إبطالِ الحُقوقِ الثَّابِتةِ حَرامٌ بالِاتِّفاقِ). ((الفتاوى الكبرى)) (6/315). ، وابنُ القَيِّمِ [3653] قال: (الحيَلُ أقسامٌ: أحَدُها: الطُّرُقُ الخَفيَّةُ التي يُتَوصَّلُ بها إلى ما هو مُحَرَّمٌ في نَفسِهِ، فمَتى كانَ المَقصودُ بها مُحَرَّمًا في نَفسِهِ فهيَ حَرامٌ باتِّفاقِ المُسلِمينَ، وصاحِبُها فاجِرٌ ظالِمٌ آثِمٌ. وذَلِكَ كالتَّحَيُّلِ على هَلاكِ النُّفوسِ، وأخذِ الأموالِ المَعصومةِ ... والثَّاني: ما لا يَظهَرُ ذلك فيهِ، بَل يُظهِرُ المُحتالُ أنَّ قَصدَهُ الخَيرُ، ومَقصودُهُ الظُّلمُ والبَغيُ، مِثلُ إقرارِ المَريضِ لِوارِثٍ لا شَيءَ لَهُ عِندَهُ؛ قَصدًا لِتَخصيصِهِ بالمُقَرِّ بهِ، أو إقرارِهِ بوارِثٍ وهو غَيرُ وارِثٍ؛ إضرارًا بالورَثةِ. وهَذا حَرامٌ باتِّفاقِ الأُمَّةِ، وتَعليمُهُ لِمَن يَفعَلُهُ حَرامٌ، والشَّهادةُ عليه حَرامٌ إذا عَلِمَ الشَّاهِدُ صورةَ الحالِ، والحُكمُ بموجِبِ ذلك حُكمٌ باطِلٌ حَرامٌ، يَأثَمُ به الحاكِمُ باتِّفاقِ المُسلِمينَ إذا عَلِمَ صورةَ الحالِ، فهَذِه الحيلةُ في نَفسِها مُحَرَّمةٌ لأنَّها كَذِبٌ وزورٌ، والمَقصودُ بها مُحَرَّمٌ لِكَونِه ظُلمًا وعُدوانًا). ((إغاثة اللهفان)) (2/765-767). ، والشَّاطِبيُّ [3654] قال: (لا يُمكِنُ إقامةُ دَليلٍ في الشَّريعةِ على إبطالِ كُلِّ حيلةٍ، كما أنَّه لا يَقومُ دَليلٌ على تَصحيحِ كُلِّ حيلةٍ، وإنَّما يُبطَلُ مِنها ما كانَ مُضادًّا لِقَصدِ الشَّارِعِ خاصَّةً، وهو الذي يَتَّفِقُ عليه جَميعُ أهلِ الإسلامِ). ((الموافقات)) (3/33). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الاحتيالُ على إسقاطِ ما هو واجِبٌ في الحالِ، كالاحتيالِ على إسقاطِ الإنفاقِ الواجِبِ عليه، وأداءِ الدَّينِ الواجِبِ، بأن يُمَلِّكَ مالَه لزَوجَتِه أو ولَدِه، فيَصيرُ مُعسِرًا، فلا يَجِبُ عليه الإنفاقُ والأداءُ. وكَمَن دَخَلَ عليه رَمَضانُ وهو مُقيمٌ فنَوى الصَّومَ، فأرادَ السَّفَرَ؛ حيلةً للفِطرِ، فسافَرَ ولا غَرَضَ له سِوى الفِطرِ، لَم يُبَحِ الفِطرُ، ونَحوِ ذلك [3655] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (3/49)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/781)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/107). .
2- الاحتيالُ على إسقاطِ ما انعَقدَ سَبَبُ وُجوبِه ولَم يَجِبْ، لَكِنَّه صائِرٌ إلى الوُجوبِ، فيَحتالُ حَتَّى يَمتَنِعَ الوُجوبُ، كالاحتيالِ على إسقاطِ الزَّكاةِ بتَمليكِه مالَه قَبلَ مُضيِّ الحَولِ لبَعضِ أهلِه، ثُمَّ استِرجاعِه بَعدَ ذلك [3656] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/782). .
3- الحيَلُ في البَيعِ بإسقاطِ حَقِّ أحَدِ المُتَبايِعَينِ، كاحتيالِ البائِعِ على فسخِ البَيعِ بدَعواه أنَّه كان مَحجورًا عليه. أوِ احتيالِ المُشتَري على الفَسخِ بأنَّه لَم يَرَ المَبيعَ [3657] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/768). .
4- احتيالُ المَرأةِ إلى فُرقةِ زَوجِها بمَعصيةٍ، مِثلُ أن تَنشُزَ عليه أو تُسيءَ العِشرةَ بإظهارِ الكَراهةِ في بَذلِ حُقوقِه، أو غَيرِ ذلك مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَركَ واجِبٍ أو فِعلَ مُحَرَّمٍ، مِثلَ طولِ اللِّسانِ ونَحوِه [3658] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/315). .

انظر أيضا: