موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: آراءُ العُلَماءِ في الاحتِجاجِ بالقَواعِدِ الفِقهيَّةِ غَيرِ المَنصوصِ عليها


اختَلَفَ العُلَماءُ في القَواعِدِ الفِقهيَّةِ غَيرِ المَنصوصِ عليها، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: عَدَمُ حُجِّيَّةِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ:
يَرى أصحابُ هذا الرَّأيِ عَدَمَ جَوازِ الاستِدلالِ بالقَواعِدِ الفِقهيَّةِ في استِنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ لأنَّ غايَتَها ضَبطُ الفُروعِ بجامِعٍ يَجمَعُها مِن قَبيلِ الاستِرشادِ الفِقهيِّ لا الاستِدلالِ، فلا تَصلُحُ أن تَكونَ دَليلًا تُبنى عليه أحكامُ الفُروعِ والجُزئيَّاتِ، ولا تَعدو كَونَها شَواهِدَ للِاستِئناسِ وتَنبيهِ القَرائِحِ، ولِلتَّفَقُّهِ، لا نُصوصَ للقَضاءِ [394] يُنظر: ((المدخل الفقهي العام)) لمصطفى الزرقا (2/966)، ((القواعد الفقهية)) لعلي الندوي (ص: 294)، ((القواعد الفقهية حجيتها وضوابط الاستدلال بها)) لرياض خليفي (ص: 291). .
ومِمَّن نُسِبَ إليه هذا القَولُ: الجُوَينيُّ [395] وذلك مِن قَولِه: (وأنا الآنَ أضرِبُ مِن قاعِدةِ الشَّرعِ مَثَلَينِ يَقضي الفَطِنُ العَجَبَ مِنهما، وغَرَضي بإيرادِهما تَنبيهُ القَرائِحِ لدَرَكِ المَسلَكِ الذي مَهَّدتُه في الزَّمانِ الخالي، ولَستُ أقصِدُ الِاستِدلالَ بهما، فإنَّ الزَّمانَ إذا فُرِضَ خاليًا عَنِ التَّفاريعِ والتَّفاصيلِ لم يَستَنِدْ أهلُ الزَّمانِ إلَّا إلى مَقطوعٍ به، فالذي أذكُرُه مِن أساليبِ الكَلامِ في تَفاصيلِ الظُّنونِ. فالمَثَلانِ: أحَدُهما: في الإباحةِ، والثَّاني: في بَراءةِ الذِّمَّةِ). ((غياث الأمم)) (ص: 499). وقد فهِمَ بَعضُ المُعاصِرينَ مِن هذا النَّصِّ أنَّه بهذا لا يستَدلُّ بالقَواعِدِ الفِقهيَّةِ. يُنظر: ((القواعد الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 266)، ((القواعد الفقهية)) لعلي الندوي (ص: 294). ، وواضِعو مَجَلَّةِ الأحكامِ العَدليَّةِ [396] فقد قالوا في تَقريرِ المَجَلَّةِ ونَشرَها عَلي حَيدر في أوَّلِ شَرحِ المَجَلَّةِ: (وحُكَّامُ الشَّرعِ ما لم يَقِفوا على نَقلٍ صَريحٍ لا يَحكُمونَ بمُجَرَّدِ الِاستِنادِ إلى واحِدةٍ مِن هذه القَواعِدِ، إلَّا أنَّ لها فائِدةً كُلِّيَّةً في ضَبطِ المَسائِلِ). ((درر الأحكام)) لعلي حيدر (1/ 11). ويُنظر أيضًا: ((المدخل الفقهي العام)) لمصطفى الزرقا (2/ 966). .
واستدَلُّوا بأدِلَّةٍ:
1- القَواعِدُ الفِقهيَّةُ هيَ ثَمَرةٌ للفُروعِ المُختَلِفةِ وجامِعٌ ورابِطٌ لها، ولَيسَ مِنَ المَعقولِ أن يُجعَلَ ما هو ثَمَرةٌ وجامِعٌ دَليلًا لاستِنباطِ أحكامِ الفُروعِ.
2- أنَّ القَواعِدَ الفِقهيَّةَ في حَقيقَتِها أغلَبيَّةٌ، ولَيسَت كُلِّيَّةً؛ لعِلمِنا بعَدَمِ ثُبوتِ الاستِقراءِ التَّامِّ لها، فباتَ إطلاقُ كُلِّيَّتِها يَفتَقِرُ إلى الدَّليلِ، فلا دَليلَ على كُلِّيَّتِها، ومن ثمَّ لا دَليلَ على حُجِّيَّتِها، ولِكَونِها لا تَخلو عَنِ المُستَثنَياتِ، فقد تَكونُ المَسألةُ المَبحوثُ عَن حُكمِها مِنَ المَسائِلِ والفُروعِ المُستَثناةِ، فلا يَجوزُ بناءُ حُكمٍ على أساسِها، ولا يَنبَغي تَخريجُ الفُروعِ عليها.
3- مِنَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ ما هو مُخَرَّجٌ بعَمَلٍ اجتِهاديٍّ مُحتَملٍ للخَطَأِ، فتَعميمُ حُكمِها فيه نَوعٌ مِنَ المُجازَفةِ.
4- أنَّ في جَعلِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ أصلًا تُبنى عليه أحكامُ الفُروعِ نَصبًا لأصلٍ جَديدٍ يُضافُ إلى أُصولِ الفِقهِ وأدِلَّتِه الإجماليَّةِ، وإثباتُ الأُصولِ يَصِحُّ بالأدِلَّةِ القَطعيَّةِ لا الظَّنِّيَّةِ [397] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لعلي الندوي (ص: 293)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/1/ 45- 47)، ((القواعد الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 272)، ((القواعد الفقهية حجيتها وضوابط الاستدلال بها)) لرياض منصور الخليفي (ص: 305- 307)، ((الاستدلال بالقواعد والضوابط الفقهية)) لسناء رحماني (ص: 108). .
القَولُ الثَّاني: حُجِّيَّةُ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ:
يَرى أصحابُ هذا الرَّأيِ حُجِّيَّةَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ، وجَوازَ الاستِدلالِ بها بناءً على كُلِّيَّتِها؛ إذ يُمكِنُ الاستِنادُ إليها في استِنباطِ الأحكامِ، وإصدارِ الفَتاوى، وإلزامِ القَضاءِ بها، إذا لم يُعارِضها أصلٌ مَقطوعٌ به مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ [398] يُنظر: ((القواعد الفقهية حجيتها وضوابط الاستدلال بها)) لرياض الخليفي (ص: 291 و304). .
ونُسِبَ هذا المَذهَبُ إلى الشَّافِعيِّ [399] نَقَلَ الغَزاليُّ عَنِ الشَّافِعيِّ قَولَه: (إذا رُفِعَت إليه واقِعةٌ فليَعرِضْها على نُصوصِ الكِتابِ، فإن أعوزَه فعَلى الأخبارِ المُتَواتِرةِ، فإن أعوزَه إذًا فعَلى الآحادِ، فإن أعوزَه لم يَخُضْ في القياسِ بَل يَلتَفِتُ إلى ظاهِرِ القُرآنِ، فإن وجَدَ ظاهِرًا نَظَرَ في المُخَصِّصاتِ مِن قياسٍ وخَبَرٍ، فإن لم يَجِدْ مُخَصِّصًا حَكَمَ به، وإن لم يَعثُرْ على لفظٍ مِن كِتابٍ ولا سُنَّةٍ نَظَرَ إلى المَذاهِبِ، فإن وجَدَها مُجمَعًا عليها اتَّبَعَ الإجماعَ، وإن لم يَجِدْ إجماعًا خاضَ في القياسِ، ويُلاحِظُ القَواعِدَ الكُلِّيَّةَ أوَّلًا، ويُقدِّمُها على الجُزئيَّاتِ، كما في القَتلِ بالمُثقلِ؛ يُقدِّمُ قاعِدةَ الرَّدعِ على مُراعاةِ الآلةِ، فإن عَدِمَ قاعِدةً كُلِّيَّةً نَظَرَ في النُّصوصِ ومَواقِعِ الإجماعِ، فإن وجَدَها في مَعنًى واحِدٍ ألحَقَ به، وإلَّا انحَدَرَ إلى قياسٍ مُخَيَّلٍ، فإن أعوزَه تَمَسَّكَ بالشَّبَهِ، ولا يُعَوِّلُ على طَردٍ إن كانَ يُؤمِنُ باللهِ العَزيزِ، ويَعرِفُ مَآخِذَ الشَّرعِ). ((المنخول)) (ص: 575- 576). ، وبه قال ابنُ عَبدِ البَرِّ [400] فقد قال في شَرحِ حَديثِ "لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ": (وهذه أُصولٌ قد بانَت عِلَلُها، فقِسْ عليها ما كانَ في مَعناها تُصِبْ إن شاءَ اللهُ. وهذا كُلُّه بابٌ واحِدٌ مُتَقارِبُ المَعاني مُتَداخِلٌ، فاضبِطْ أصلَهـ). ((التمهيد)) (12/ 535). ، والقَرافيُّ [401] قال: (هذه القَواعِدُ مُهِمَّةٌ في الفِقهِ عَظيمةُ النَّفعِ، وبِقدرِ الإحاطةِ بها يَعظُمُ قدرُ الفَقيهِ.. ومَن جَعَلَ يُخَرِّجُ الفُروعَ بالمُناسَباتِ الجُزئيَّةِ دونَ القَواعِدِ الكُلِّيَّةِ تَناقَضَت عليه الفُروعُ واختَلَفَت، وتَزَلزَلَت خَواطِرُه فيها واضطَرَبَت، وضاقَت نَفسُه لذلك وقَنَطَت، واحتاجَ إلى حِفظِ الجُزئيَّاتِ التي لا تَتَناهى، وانتَهى العُمُرُ ولَم تَقضِ نَفسُه مِن طَلَبِ مُناها، ومَن ضَبَطَ الفِقهَ بقَواعِدِه استَغنى عَن حِفظِ أكثَرِ الجُزئيَّاتِ لاندِراجِها في الكُلِّيَّاتِ، واتَّحَدَ عِندَه ما تَناقَضَ عِندَ غَيرِهـ). ((الفروق)) (1/ 3). ، وابنُ تَيميَّةَ [402] قال: (اعتِبارُ مَقاديرِ المَصالِحِ والمَفاسِدِ هو بميزانِ الشَّريعةِ، فمَتى قدَرَ الإنسانُ على اتِّباعِ النُّصوصِ لم يَعدِلْ عَنها، وإلَّا اجتَهَدَ برَأيِه لمَعرِفةِ الأشباهِ والنَّظائِرِ، وقَلَّ أن تُعوِزَ النُّصوصُ مَن يَكونُ خَبيرًا بها وبِدَلالَتِها على الأحكامِ). ((مجموع الفتاوى)) (28/ 129). فبَيَّنَ اعتِبارَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ في الِاجتِهادِ، وأنَّ الرُّجوعَ إليها لا يَكونُ إلَّا إذا تَعَذَّرَ وُجودُ الحُكمِ في النَّصِّ. ، والسُّيوطيُّ [403]، فقد ذَكَرَ مِن فوائِدِ عِلمِ الأشباهِ والنَّظائِرِ: (ويَقتَدِرُ على الإلحاقِ والتَّخريجِ، ومَعرِفةِ أحكامِ المَسائِلِ التي ليسَت بمَسطورةٍ، والحَوادِثِ والوقائِعِ التي لا تَنقَضي على مَمَرِّ الزَّمانِ). ((الأشباه والنظائر)) (ص: 6). وقال أيضًا بَعدَ إيرادِه كِتابَ عُمَرَ إلى أبي موسى رَضيَ اللهُ عنهما: ((هذه قِطعةٌ مِن كِتابِه، وهيَ صَريحةٌ في الأمرِ بتَتَبُّعِ النَّظائِرِ وحِفظِها؛ ليُقاسَ عليها ما ليس بمَنقولٍ)). ((الأشباه والنظائر)) (ص: 7). .
واستَدَلُّوا بما ورَدَ في كِتابِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ إلى أبي موسى الأشعَريِّ رَضيَ اللهُ عنهما، وقَولِه: (الفَهمَ الفَهمَ فيما أُدليَ إليكَ مِمَّا ليس في قُرآنٍ ولا سُنَّةٍ، ثُمَّ قايِسِ الأُمورَ عِندَ ذلك، واعرِفِ الأمثالَ والأشباهَ، ثُمَّ اعمِدْ إلى أحَبِّها إلى اللهِ  فيما تَرى، وأشبَهِها بالحَقِّ) [404] أخرجه البيهقي (20567)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (32/71) عن أبى العوام البصرى قال الذهبي في ((المهذب)) (8/4154): إسنادها منقطع  قال ابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (1/89): كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وقال البيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (14/240): كتاب معروف مشهور لابد للقضاة من معرفته والعمل به وأخرجه من طريق آخر الدارقطني (5/369)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (32/70) بلفظ: عن أبي المليح الهذلي، قال: كَتَبَ عمرُ بنُ الخطابِ إلى أبي موسى الأشعري: الفهمَ الفهمَ فيما يختلجُ في صدركَ مما لم يبلغْكَ في الكتابِ أو السنةِ، اعرف الأمثالَ والأشباهَ ثمَّ قِس الأمورَ عند ذلك فاعمدْ إلى أحبها عند الله وأشبهِها بالحقِّ. قال الذهبي في ((المهذب)) (8/4205): فيه عبيد الله هالك، وذكر الزيلعي في ((نصب الراية)) (4/81) أن فيه عبد الله بن أبي حميد ضعي، وذكر الألباني في ((إرواء الغليل)) (8/241) أن فيه عبيد الله بن أبي حميد متروك الحديث .
قال البَيهَقيُّ: (وهو كِتابٌ مَعروفٌ مَشهورٌ لا بُدَّ للقُضاةِ مِن مَعرِفَتِه والعَمَلِ بهـ) [405] ((معرفة السنن والآثار)) (14/ 241). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (وهذا كِتابٌ جَليلٌ تَلَقَّاه العُلَماءُ بالقَبولِ، وبَنَوا عليه أُصولَ الحُكمِ والشَّهادةِ. والحاكِمُ والمُفتي أحوجُ شَيءٍ إليه وإلى تَأمُّلِه، والتَّفَقُّهِ فيهـ) [406] ((إعلام الموقعين)) (1/ 187). .
وقال السُّيوطيُّ: (هذه قِطعةٌ مِن كِتابِه، وهيَ صَريحةٌ في الأمرِ بتَتَبُّعِ النَّظائِرِ وحِفظِها؛ ليُقاسَ عليها ما ليس بمَنقولٍ) [407] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 7). .
فأفادَ مَشروعيَّةَ الاجتِهادِ بإلحاقِ الفَرعِ الفِقهيِّ إلى ما هو أشبَهُ به، والقَواعِدُ الفِقهيَّةُ فيها إلحاقُ الفَرعِ الفِقهيِّ بالفُروعِ الكَثيرةِ المُناظِرةِ له، والمُندَرِجةِ تَحتَ القاعِدةِ الفِقهيَّةِ، فهيَ أولى بقَولِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه مِن إلحاقِ فرعٍ فِقهيٍّ بواحِدٍ مُشابِهٍ له، فصَحَّ بهذا أن يَستَدِلَّ المُجتَهِدُ في تَخريجِ الفُروعِ على القاعِدةِ الفِقهيَّةِ؛ مِمَّا يَعني صِحَّةَ الاستِدلالِ بالقاعِدةِ الفِقهيَّةِ على أحكامِ الفُروعِ [408] يُنظر: ((القاعدة الفقهية حجيتها وضوابط الاستدلال بها)) لرياض الخليفي (ص: 312)، ((الاستدلال بالقواعد والضوابط الفقهية)) لسناء رحماني (ص: 104- 134). .
ويُستَدَلُّ مِنَ المَعقولِ أيضًا: بأنَّ عِنايةَ المُتَقدِّمينَ الفائِقةَ بتَصنيفاتِهم في القَواعِدِ الفِقهيَّةِ تَأصيلًا وتَفريعًا لم تَكُنْ لمُجَرَّدِ رياضاتِ العُقولِ بإنفاقِ الأعمارِ في جَمعٍ مُجَرَّدٍ للأحكامِ الفِقهيَّةِ فحَسبُ، بَل لتَكونَ أدِلَّةً تُساعِدُ في تَحصيلِ أحكامِ الفُروعِ، وتَتَخَرَّجُ عليها الحَوادِثُ والنَّوازِلُ غَيرُ المَنصوصِ عليها شَرعًا، فتَكونُ حُجَّةً يُستَدَلُّ بها، إضافةً إلى مَعنى الاستِرشادِ الفِقهيِّ [409] يُنظر: ((القاعدة الفقهية حجيتها وضوابط الاستدلال بها)) لرياض الخليفي (ص: 291، 318). .

انظر أيضا: