المَبحَثُ الخامِسُ: المالُ يَثبُتُ مَعَ الشُّبُهاتِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المالُ يَثبُتُ مَعَ الشُّبُهاتِ"
[3045] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (19/107)، ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للجصاص (2/214)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (8/93). ، وصيغةِ: "المالُ يَثبُتُ مَعَ الشُّبهةِ"
[3046] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/188)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/22)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/151)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/219). ، وصيغةِ: "الأموالُ تَثبُتُ بالشُّبهةِ"
[3047] يُنظر: ((رؤوس المسائل)) للزمخشري (ص: 527)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/163)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/438). ، وصيغةِ: "الشُّبهةُ لا تَمنَعُ وُجوبَ الضَّمانِ"
[3048] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (6/2079). ، وصيغةِ: "الحَدُّ يَسقُطُ بالشُّبهةِ، ولا يَسقُطُ المالُ بها"
[3049] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/88). ، وصيغةِ: "الشُّبهةُ لا تَمنَعُ مِنِ استيفاءِ سائِرِ الحُقوقِ"
[3050] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/21). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.اشتَهَرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ ثُبوتَ الأموالِ والحُقوقِ لا تَمنَعُه الشُّبُهاتُ، بَل يَثبُتُ وُجودُها مَعَ الشُّبُهاتِ، بخِلافِ الحُدودِ والقِصاصِ، كما أنَّ الشُّبهةَ لا تَمنَعُ وُجوبَ ضَمانِ المالِ؛ لأنَّه حَقُّ العَبدِ، وحُقوقُ العِبادِ لا تَسقُطُ بالشُّبُهاتِ؛ ولِذلك تَثبُتُ الأموالُ بالوَكالةِ، والإيصاءِ، وتُجزِئُ فيها الشَّهادةُ على الشَّهادةِ، وشَهادةُ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ، وذلك أمارةُ ثُبوتِها مَعَ الشُّبهةِ
[3051] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/5) و(9/143)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/71، 88)، ((البناية)) للعيني (3/278) و(9/108)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/188). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَدُلُّ الآيةُ الكَريمةُ على جَوازِ شَهادةِ امرَأتَينِ مَعَ رَجُلٍ في الأموالِ، ومَعلومٌ أنَّ في شَهادةِ النِّساءِ نَوعَ شُبهةٍ مِن حَيثُ إنَّه يَغلِبُ عليهنَّ النِّسيانُ
[3052] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/169)، ((المغني)) لابن قدامة (14/129)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (5/312). .
2- مِنَ الإجماعِ:فقد حُكيَ الإجماعُ على صورةٍ مِن صُوَرِ القاعِدةِ، وهيَ ثُبوتُ المالِ بشَهادةِ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ، وقد حَكاه ابنُ قُدامةَ
[3053] قال: (لا خِلافَ في أنَّ المالَ يَثبُتُ بشَهادةِ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ، وقد نَصَّ اللَّهُ تعالى على ذلك في كِتابِه بقَولِه سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى قَولِه: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وأجمَع أهلُ العِلمِ على القَولِ بهـ). ((المغني)) (14/129). ، وبُرهانُ الدّيِنِ ابنُ مُفلِحٍ
[3054] قال: (لا خِلافَ أنَّ المالَ يَثبُتُ بشَهادةِ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ؛ للنَّصِّ). ((المبدع)) (10/613). .
3- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ (الحُدودُ تَسقُطُ أو تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ، بخِلافِ الحُقوقِ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- يَصِحُّ التَّوكيلُ بإثباتِ المالِ في السَّرِقةِ؛ لأنَّ المَقصودَ إثباتُ المالِ، والمالُ يَثبُتُ مَعَ الشُّبُهاتِ؛ ولِذلك تَثبُتُ بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ وشَهادةِ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ، بخِلافِ التَّوكيلِ بإثباتِ الحُدودِ، ففيه خِلافٌ
[3055] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (19/107). .
2- الحُدودُ كُلُّها لا تَجِبُ فيها الأيمانُ إلَّا السَّرِقةَ، فلا يُستَحلَفُ في الحُدودِ إلَّا في السَّرِقةِ؛ فإنَّه يُستَحلَفُ فيها، إن طَلَبَ المُدَّعي الضَّمانَ فإنَّه يُحلَّفُ المُدَّعى عليه؛ لأنَّ المالَ يَثبُتُ مَعَ الشُّبُهاتِ؛ ولِذلك يَثبُتُ بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ، وشَهادةِ رَجُلٍ وامرَأتَينِ، فجازَ أن يَثبُتَ بالنُّكولِ
[3056] يُنظر: ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (2/214)، ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 67). .
3- رُجوعُ السَّارِقِ عنِ الإقرارِ بالسَّرِقةِ يَسقُطُ به الحَدُّ بَعدَ وُجوبِه، فلا يُقطَعُ، ولَكِن يَضمَنُ المالَ؛ لأنَّ الرُّجوعَ يُقبَلُ في الحُدودِ، ولا يُقبَلُ في المالِ؛ لأنَّ الرُّجوعَ يورِثُ شُبهةً في الإقرارِ، والحَدُّ يَسقُطُ بالشُّبهةِ، ولا يَسقُطُ المالُ بها
[3057] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/88). .
4- الوَكالةُ في دَمِ الخَطَأِ وفي العَمدِ مِنَ الجِراحِ التي لا قِصاصَ فيها بمَنزِلةِ الوَكالةِ بالمالِ؛ لأنَّ المُستَحَقَّ هاهنا هو المالُ، وهو مِمَّا يَثبُتُ مَعَ الشُّبهةِ، وإذا وقَعَ فيه الغَلَطُ أمكَنَ تَدارُكُه
[3058] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/174). .