موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: المُشتَبَهُ فيه يُؤخَذُ فيه بالأحوَطِ وهو التَّحريمُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذا المَعنى بصيغةِ: "المَنعُ مِن واحِدٍ مُبهَمٍ مِن أعيانٍ، أو مُعَيَّنٍ مُشتَبِهٍ بأعيانٍ يُؤَثِّرُ الاشتِباهُ فيها المَنعَ: يَمنَعُ التَّصَرُّفَ في تلك الأعيانِ قَبلَ تَمييزِه" [3034] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (2/326). ، وصيغةِ: "عِندَ تَحَقُّقِ المُعارَضةِ وانعِدامِ التَّرجيحِ يَجِبُ الأخذُ بالاحتياطِ" [3035] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 294)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 93). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
مَعنى الشُّبُهاتِ: ما تَنازَعَته الأدِلَّةُ وتَجاذَبَته المَعاني وتَساوت فيه الأدِلَّةُ، ولَم يَغلِبْ أحَدُ الطَّرَفينِ صاحِبَه. والمُتَشابِهُ: هو ما يَشتَبِهُ على المَرءِ إباحَتُه أو حَظرُه؛ لأنَّه في ذاتِه مُشتَبِهٌ غَيرُ مُباحٍ ولا مَحظورٍ. فالشَّيءُ إمَّا أن يَكونَ أصلُه التَّحريمَ أوِ الإباحةَ، أو يُشَكُّ فيه، فالأوَّلُ: كالصَّيدِ؛ فإنَّه يَحرُمُ أكلُه قَبلَ ذَكاتِه، فإذا شَكَّ فيها لم يَزُلْ عنِ التَّحريمِ إلَّا بيَقينٍ. والثَّاني: كالطَّهارةِ، إذا حَصَلَت لا تُرفعُ إلَّا بيَقينِ الحَدَثِ. والثَّالِثُ: ما لا يَتَحَقَّقُ أصلُه ويَتَرَدَّدُ بَينَ الحَظرِ والإباحةِ، فالأَولى تَركُه، وإذا تَقَرَّرَ أنَّ المُشتَبِهَ مُتَرَدِّدٌ بَينَ الحَرامِ والحَلالِ لتَعارُضِ سَبَبِهما، وتَنازُعِ دَليلِهما، فالأَولى والأحوَطُ التَّنَزُّهُ عنه خَوفًا مِنَ الوُقوعِ في الحَرامِ؛ لأنَّه إن كان في نَفسِ الأمرِ حَرامًا فقد بَرِئَ مِنَ التَّبِعةِ، وإن كان حَلالًا فقدِ استَحَقَّ الأجرَ على التَّركِ بهذا القَصدِ.
ومِنَ المُشتَبِهاتِ: أن يَشُكَّ المَرءُ في الشَّيءِ، ويَشتَبِهَ عليه: أهو مِمَّا أباحَه اللهُ لخَلقِه أو مِمَّا حَظَرَه عليهم؟ واجتِنابُ هذا مِنَ الورَعِ والتَّقوى. فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المُشتَبَهَ فيه يُتَّبَعُ فيه الوَرَعُ؛ لأنَّه قد يوقِعُ في الحَرامِ؛ فكَثيرًا ما يَكونُ عَدَمُ الورَعِ بارتِكابِ المُشتَبَهِ فيه سَبَبًا للوُقوعِ في مُحَرَّمٍ، فمَنِ اتَّقى ما اشتَبَهَ عليه حِلُّه وحِرْمُه، واجتَنَبَه، فقدِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، بمَعنى أنَّه طَلَبَ لَهما البَراءةَ مِمَّا يَشينُهما [3036] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) للأصبهاني (4/75)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/441)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/226)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/541)، ((التوضيح)) لابن الملقن (14/46)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/292)، ((الفتح المبين)) للهيتمي (ص: 241)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (10/201). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
1- عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعلمُها كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ كَراعٍ يَرعى حَول الحِمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألَا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه مَحارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ )) [3037] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على أصلٍ في الورَعِ، وهو تَركُ المُشتَبِهِ مِنَ الأفعالِ إلى غَيرِه؛ فإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أمَرَ بالوُقوفِ عِندَ الشُّبهةِ؛ لأنَّ المُشتَبِهَ قد يوقِعُ في الحَرامِ، وكَثيرًا ما يَكونُ عَدَمُ الورَعِ بارتِكابِ المُشتَبَهِ فيه سَبَبًا للوُقوعِ في مُحَرَّمٍ، فمَنِ اتَّقى ما اشتَبَهَ عليه حِلُّه وحِرْمُه، واجتَنَبَه، فقدِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، بمَعنى أنَّه طَلَبَ لَهما البَراءةَ مِمَّا يَشينُهما [3038] يُنظر: ((التعيين)) للطوفي (ص: 103)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/441)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/226)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/541). .
2- عنِ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: حَفِظتُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك )) [3039] أخرجه الترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وأحمد (1723). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (722)، والنووي في ((بستان العارفين)) (32)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/42)، وقال التِّرمذيُّ: حَسَنٌ صَحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أمَرَ بالوُقوفِ عِندَ الشُّبهةِ؛ إذِ المَعنى: إذا شَكَكتَ في شَيءٍ فدَعْه، وتَرْكُ ما يُشَكُّ فيه أصلٌ عَظيمٌ في الورَعِ [3040] يُنظر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/441)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/292). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- أوجَبَ بَعضُ الفُقَهاءِ إخراجَ الزَّكاةِ مِنَ الحُليِّ؛ أخذًا بالأحوطِ والأبعَدِ عنِ الشُّبهةِ، فالحُليُّ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، سَواءٌ كان أسوِرةً أو كانت قَلائِدَ، أو غَيرَ ذلك، إذا بَلَغَ النِّصابَ وجَبَت فيه الزَّكاةُ [3041] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (15/156). .
2- ذَهَبَ بَعضُ الفُقَهاءِ إلى تَحريمِ أكلِ طَعامِ مَن عُلِمَ أنَّ في مالِه حَرامًا وحَلالًا [3042] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (4/388). .
3- تَثبُتُ حُرمةُ الرَّضاعِ بشَهادةِ امرَأةٍ واحِدةٍ إذا كانت عَدلًا؛ فعن عُقبةَ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ امرَأةً سَوداءَ جاءَت فزَعَمَت أنَّها أرضَعَتهما، فذَكَر للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأعرَضَ عنه، وتَبَسَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((كَيف وقد قيلَ؟ )) [3043] أخرجه البخاري (2052). ؛ فإنَّ قَولَه: ((كَيف وقد قيلَ؟ )) يُشعِرُ بأنَّ أمرَه بفِراقِ امرَأتِه إنَّما كان لأجلِ قَولِ المَرأةِ: إنَّها أرضَعَتهما؛ ولِذلك ذَهَبَ الجُمهورُ إلى أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفتاه بالتَّحَرُّزِ مِنَ الشُّبهةِ، وأمَرَه بمُجانَبةِ الرِّيبةِ؛ خَوفًا مِنَ الإقدامِ على فَرجٍ يُخافُ أن يَكونَ الإقدامُ عليه ذَريعةً إلى الحَرامِ [3044] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/138)، ((أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم)) لابن الطلاع (ص: 69)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/293). .

انظر أيضا: