موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: القَليلُ الدَّائِمُ خَيرٌ مِنَ الكَثيرِ المُنقَطِعِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "القَليلُ الدَّائِمُ خَيرٌ مِنَ الكَثيرِ المُنقَطِعِ" [2857] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 249)، ((التوضيح)) لابن الملقن (3/ 118)، ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (6/ 71)، ((المنهل العذب)) لمحمود السبكي (7/303). ، وصيغةِ: "العَمَلُ القَليلُ الدَّائِمُ خَيرٌ مِنَ الكَثيرِ المُنقَطِعِ" [2858] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (1/ 258). ، وصيغةِ: "الدَّائِمُ وإن قَلَّ خَيرٌ مِنَ المُنقَطِعِ الكَثيرِ" [2859] يُنظر: ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (5/22). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الأعمالَ التي يُداوِمُ عليها الإنسانُ حتَّى وإن كانت قَليلةً خَيرٌ وأفضَلُ مِنَ الأعمالِ المُنقَطِعةِ حتَّى وإن كانت شاقَّةً؛ لأنَّ بدَوامِ القَليلِ تَستَمِرُّ الطَّاعةُ بالذِّكرِ والمُراقَبةِ والإخلاصِ والإقبالِ على اللهِ، بخِلافِ الكَثيرِ الشَّاقِّ. ثُمَّ إنَّ القَليلَ الدَّائِمَ يَنمو مَعَ مُرورِ الوَقتِ بحَيثُ يَزيدُ على الكَثيرِ المُنقَطِعِ أضعافًا كَثيرةً، والدَّائِمُ أفضَلُ؛ لأنَّ التَّارِكَ للعَمَلِ بَعدَ الدُّخولِ فيه كالمُعرِضِ بَعدَ الوَصلِ، فهو مُعَرَّضٌ للذَّمِّ، ولأنَّ مُداوِمَ الخَيرِ مُلازِمٌ للعُبوديَّةِ، وليس مَن لازَمَ البابَ في كُلِّ يَومٍ وقتًا ما كَمَنَ لازَمَ يَومًا كامِلًا ثُمَّ انقَطَعَ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكملةً لقاعِدةِ (ما يَكونُ أكثَرَ نَفعًا فهو أفضَلُ) [2860] يُنظر: ((النكت على صحيح البخاري)) لابن حجر (1/352،351)، ((دليل الفالحين)) لابن علان (2/385)، ((المنهل العذب)) لمحمود السبكي (7/303،302). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، ومِن ذلك:
1- عن مَسروقٍ، قال: سَألتُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (أيُّ العَمَلِ كان أحَبَّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالت: الدَّائِمُ)) [2861] أخرجه البخاري (1132) واللفظ له، ومسلم (741). .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((لَم يَكُنْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الشَّهرِ مِنَ السَّنةِ أكثَرَ صيامًا مِنه في شَعبانَ، وكان يَقولُ: خُذوا مِنَ الأعمالِ ما تُطيقونَ؛ فإنَّ اللَّهَ لَن يَمَلَّ حتَّى تَمَلُّوا. وكان يَقولُ: أحَبُّ العَمَلِ إلى اللهِ ما داومَ عليه صاحِبُه، وإن قَلَّ )) [2862] أخرجه البخاري (1970)، ومسلم (782) واللفظ له .
3- وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((يا عبدَ اللهِ، لا تَكُنْ مِثلَ فُلانٍ؛ كان يَقومُ اللَّيلَ فتَرَكَ قيامَ اللَّيلِ )) [2863] أخرجه البخاري (1152) واللفظ له، ومسلم (1159). .
وفيما تَقدَّمَ مِنَ الأحاديثِ ما يُفيدُ بوُضوحٍ أنَّ العَمَلَ الدَّائِمَ خَيرٌ مِنَ المُنقَطِعِ [2864] يُنظر: ((النكت على صحيح البخاري)) لابن حجر (1/351)، ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (3/118). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- تُستَحَبُّ المُداوَمةُ على صَلاةِ الضُّحى ولَو برَكعَتَينِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصى بها أصحابَه، ولأنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ ما داومَ عليه صاحِبُه وإن قَلَّ [2865] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/551). .
2- المواظَبةُ على قيامِ اللَّيلِ ولَو شَيئًا يَسيرًا مِنه [2866] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 38). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
قَيدٌ:
لا يَنبَغي أن يُفهَمَ مِن ألفاظِ القاعِدةِ أنَّ العَمَلَ المُداوَمَ عليه يُشتَرَطُ كَونُه قَليلًا؛ لذا فإنَّها تُضبَطُ بقَيدٍ: كُلُّ وظيفةٍ لا يُمكِنُ المواظَبةُ على كَثيرِها فقَليلُها مَعَ المُداومةِ أفضَلُ وأشَدُّ تَأثيرًا في القَلبِ مِن كَثيرِها مَعَ الفترةِ مِن غَيرِ مُداوَمةٍ [2867] يُنظر: ((الإحياء)) للغزالي (1/ 333)، ((إتحاف السادة المتقين)) للزبيدي (5/ 417). .
فائِدةٌ:
يُستَحَبُّ أن يَكونَ للإنسانِ تطَوُّعاتٌ يُداوِمُ عليها، وإذا فاتَت يَقضيها؛ فعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا عَمِلَ عَمَلًا أثبَتَه، وكان إذا نامَ مِنَ اللَّيلِ أو مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهارِ ثِنْتَي عَشرةَ رَكعةً )) [2868] أخرجه مسلم (746). ، ولأنَّه إذا قَضى ما تَرَكَ مِن تَطَوُّعِه كان أبعَدَ له مِنَ التَّركِ [2869] يُنظر: ((الشرح الكبير على المقنع)) لشمس الدين ابن قدامة (4/197،196). .

انظر أيضا: