موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: الأصلُ أنَّ الاحتياطَ في حُقوقِ اللهِ تعالى جائِزٌ وفي حُقوقِ العِبادِ لا يَجوزُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ أنَّ الاحتياطَ في حُقوقِ اللَّهِ تعالى جائِزٌ، وفي حُقوقِ العِبادِ لا يَجوزُ" [2329] يُنظر: ((أصول الكرخي)) (ص: 166)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 15). ، وصيغةِ: "حُقوقُ العِبادِ لا يَجري فيها الاحتياطُ" [2330] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني ((3/62). ، وبِصيغةِ: "الضَّمانُ الواجِبُ بحَقِّ العِبادِ غَيرُ مَبنيٍّ على الاحتياطِ" [2331] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/ 88)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/ 443). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
لمَّا كانت حُقوقُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ تَختَلِفُ عن حُقوقِ العِبادِ؛ فالأولى مَبنيَّةٌ على العَفوِ، والثَّانيةُ مَبنيَّةٌ على الشُّحِّ- جاز للعَبدِ في حُقوقِ اللهِ تعالى الأخذُ بالأحوطِ بأن يَحمِلَ نَفسَه على الأشَقِّ؛ طَلَبًا لبَراءةِ ذِمَّتِه بيَقينٍ في حُقوقِ اللهِ تعالى، أمَّا في حُقوقِ العِبادِ فلا يُطالَبُ العَبدُ فيها بالأحوطِ؛ لأنَّ الأصلَ بَراءةُ ذِمَّةِ العِبادِ، فلا تُشغَلُ ذِمَّتُه إلَّا بيَقينٍ، ولا يُقضى عليه فيها بالأحوطِ، فلا تُشغَلُ ذِمَّتُه بحُقوقِ النَّاسِ بالشَّكِّ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكمِلةً لقاعِدةِ (الشَّريعةُ مَبنيَّةٌ على الاحتياطِ) [2332] يُنظر: ((أصول الكرخي)) (ص:166)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني ((3/62)، ((النهاية)) للسغناقي (6/193)، ((قواعد الفقهـ)) لمحمد عميم (ص: 15). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
الدَّليلُ على أنَّ الاحتياطَ في حُقوقِ اللهِ جائِزٌ:
دَلَّ على أنَّ الاحتياطَ في حُقوقِ اللهِ جائِزٌ: ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ في قاعِدةِ (الشَّريعةُ مَبنيَّةٌ على الاحتياطِ)، ويُضافُ إليها مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا استَيقَظَ أحَدُكُم مِن نَومِه فلا يَغمِسْ يَدَه في الإناءِ حتَّى يَغسِلَها ثَلاثًا؛ فإنَّه لا يَدري أينَ باتَت يَدُه )) [2333] أخرجه مسلم (278). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على العَمَلِ بالاحتياطِ في حُقوقِ اللهِ؛ حَيثُ أمَرَ بغَسلِ اليَدَينِ قَبلَ أن يُدخِلَهما في الماءِ؛ احتياطًا مِن وُجودِ النَّجاسةِ [2334] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/251)، ((المنهل الحديث)) لموسى لاشين (1/54). .
قال النَّوويُّ في فوائِدِ الحَديثِ: (ومِنها: استِحبابُ الأخذِ بالاحتياطِ في العِباداتِ وغَيرِها ما لم يَخرُجْ عن حَدِّ الاحتياطِ إلى حَدِّ الوَسوَسةِ) [2335] يُنظر: ((شرح مسلم)) (3/179). .
2- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا شَكَّ أحَدُكُم في صَلاتِه فلَم يَدرِ كَم صَلَّى: ثَلاثًا أم أربَعًا؟ فليَطرَحِ الشَّكَّ وليَبنِ على ما استَيقَنَ، ثُمَّ يَسجُدُ سَجدَتَينِ قَبلَ أن يُسَلِّمَ، فإن كان صَلَّى خَمسًا شَفعنَ له صَلاتَه، وإن كان صَلَّى إتمامًا لأربَعٍ كانتا تَرغيمًا للشَّيطانِ )) [2336] أخرجه مسلم (571). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَر بطَرحِ الشَّكِّ والبِناءِ على اليَقينِ، وفي هذا أخذٌ بالأحوَطِ في جانِبِ العِبادةِ [2337] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (2/180)، ((فتح المنعم)) لموسى لاشين (3/229). .
الدَّليلُ على أنَّ الاحتياطَ في حُقوقِ العِبادِ لا يَجوزُ:
دَلَّ على أنَّ الاحتياطَ في حُقوقِ العِبادِ لا يَجوزُ: الاستِصحابُ؛ فالأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ، ولا تُشغَلُ الذِّمَّةُ إلَّا بيَقينٍ [2338] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/251)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/68)، ((القواعد)) للحصني (1/32). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو ضَرَبَ المُحرِمُ بَطنَ ظَبيةٍ فطَرَحَت جَنينًا مَيِّتًا ثُمَّ ماتَت، فعليه جَزاؤُهما جَميعًا؛ لأنَّ الضَّربَ سَبَبٌ صالِحٌ لمَوتِهما، وقد ظَهَرَ المَوتُ عَقيبَه، بخِلافِ الضَّمانِ الواجِبِ لحَقِّ العِبادِ؛ فإنَّ مَن ضَرب بَطنَ جاريةٍ فألقَت جَنينًا مَيِّتًا وماتَت، فلا يَجِبُ ضَمانُ الجَنينِ؛ لأنَّ الجَنينَ في حُكمِ الجُزءِ مِن وَجهٍ، وفي حُكمِ النَّفسِ مِن وَجهٍ، والضَّمانُ الواجِبُ لحَقِّ العِبادِ غَيرُ مَبنيٍّ على الاحتياطِ، فلا يَجِبُ في مَوضِعِ الشَّكِّ، فأمَّا جَزاءُ الصَّيدِ فمَبنيٌّ على الاحتياطِ؛ فلِهذا رَجَحَ شِبهُ النَّفسِ في الجَنينِ، فوجَبَ عليه جَزاؤهما [2339] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/88). .
2- الصَّلاةُ إذا دارَت بَينَ الجَوازِ والفسادِ فالاحتياطُ أن يُعيدَ الأداءَ؛ لأنَّه لو أدَّى ما ليسَ عليه فهو أولى مِن تَركِ ما عليه [2340] يُنظر: ((أصول الكرخي)) (ص:166). .

انظر أيضا: