الفَرعُ الأوَّلُ: الاحتياطُ في أن يُؤخَذَ باليَقينِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الاحتياطُ في أن يُؤخَذَ باليَقينِ"
[2315] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/39). ، وبصيغةِ: "الاحتياطُ هو البِناءُ على اليَقينِ دونَ غالِبِ الظَّنِّ والتَّخمينِ"
[2316] يُنظر: ((المعونة على مذهب عالم المدينة)) (1/238). ويُنظر أيضًا: ((الإشراف)) (1/ 274) كلاهما للقاضي عبد الوهاب. .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.الاحتياطُ هو حِفظُ النَّفسِ عنِ الوُقوعِ في المَأثَمِ، ويَكونُ بالأخذِ بأوثَقِ الوُجوهِ، وفِعلِ ما يُتَمَكَّنُ به مِن إزالةِ الشَّكِّ، والأخذِ بالحَزمِ، والتَّحَرُّزِ مِمَّا عَسى أن يَكونَ طَريقًا لمَفسَدةٍ، بأن يَأخُذَ بالوَجهِ الأحوَطِ مُحتَرِزًا عن أن يَترُكَ شَيئًا مَطلوبًا، أو يَتَعَدَّى فيَفعَلَ شَيئًا غَيرَ مَطلوبٍ، فإذا شَكَّ في فِعلِ الشَّيءِ أو لا فإنَّه يَعتَمِدُ اليَقينَ احتياطًا حتَّى تَبرَأَ ذِمَّتُه بيَقينٍ، والبِناءُ على اليَقينِ تَقديرُ أشَقِّ الأمرَينِ والإتيانُ بالأشَقِّ مِنهما
[2317] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (1/51،50)، ((المبسوط)) للسرخسي (6/39)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/ 20)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/85)، ((البناية)) للعيني (4/390)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (1/341). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ في قاعِدةِ (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، وأدِلَّةِ قاعِدةِ (الشَّريعةُ مَبنيَّةٌ على الاحتياطِ).
ويُستَدَلُّ عليها أيضًا بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا شَكَّ أحَدُكُم في صَلاتِه فلَم يَدرِ كَم صَلَّى: ثَلاثًا أم أربَعًا؟ فليَطرَحِ الشَّكَّ وليَبنِ على ما استَيقَنَ، ثُمَّ يَسجُدُ سَجدَتَينِ قَبلَ أن يُسَلِّمَ، فإن كان صَلَّى خَمسًا شَفعنَ له صَلاتَه، وإن كان صَلَّى إتمامًا لأربَعٍ كانتا تَرغيمًا للشَّيطانِ )) [2318] أخرجه مسلم (571). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَر المُصَلِّيَ بالاحتياطِ لصَلاتِه؛ لأنَّ أمرَ الصَّلاةِ مَبنيٌّ على الاحتياطِ، وهو هاهنا البِناءُ على اليَقينِ، فإنَّه يَلزَمُه البِناءُ على اليَقينِ احتياطًا لتَحصيلِ مَصلَحةِ الواجِبِ
[2319] يُنظر: ((الإشراف على نكت مسائل الخلاف)) للقاضي عبد الوهاب (1/ 274)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/ 20). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا أتى المَرأةَ خَبَرُ وفاةِ زَوجِها بَعدَ ما مَضَت مُدَّةُ العِدَّةِ فقدِ انقَضَتِ العِدَّةُ؛ لأنَّ المُعتَبَرَ وقتُ مَوتِه لا وقتُ عِلمِها به، وإن شَكَّت في وقتِ وفاتِه اعتَدَّت مِنَ الوقتِ الذي تَستَيقِنُ فيه بمَوتِه؛ لأنَّ العِدَّةَ يُؤخَذُ فيها بالاحتياطِ، والاحتياطُ في أن يُؤخَذَ باليَقينِ، وفي الوقتِ المَشكوكِ فيه لا يَقينَ؛ فلِهذا لا تَعتَدُّ إلَّا مِنَ الوَقتِ المُتَيَقَّنِ
[2320] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/39). .
2- في يَومِ الغَيمِ المُستَحَبُّ تَأخيرُ الفَجرِ والظُّهرِ والعَصرِ والمَغرِبِ والعِشاءِ عِندَ أبي حَنيفةَ، ووَجهُه أنَّه أقرَبُ إلى الاحتياطِ؛ فأداءُ الصَّلاةِ في وقتِها أو بَعدَ ذَهابِه يَجوزُ، ولا يَجوزُ أداؤُها قَبلَ دُخولِ الوقتِ
[2321] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (1/148). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.الأخذُ باليَقينِ أوِ البِناءُ على اليَقينِ مَعنًى كُلِّيٌّ يَندَرِجُ تَحتَه جُملةٌ مِنَ المَسالِكِ الاحتياطيَّةِ الفرعيَّةِ التي يُمكِنُ التَّعويلُ عليها في مَقامِ العَمَلِ، ويَأتي هو في مُقدِّمَتِها
[2322] ينظر باختصار: ((نظرية الاحتياط الفقهي)) لسماعي (ص: 137- 139). :
الأوَّلُ: التَّمَسُّكُ بأصالةِ الوُجوبِ:فمَن وجَبَ عليه شَيءٌ لم يَنفَعْه في تَخليصِ ذِمَّتِه إلَّا اليَقينُ؛ لأنَّ الذِّمَّةَ إذا عُمِرَت بيَقينٍ بَقيَت مَشغولةً، وأصبَحَ انشِغالُها أصلًا مُستَصحَبًا لا يُزالُ عنه إلَّا بيَقينٍ أو ما يَقومُ مَقامَه، أو يَشتَمِلُ عليه
[2323] يُنظر: ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (ص: 199). . ومِنَ المُقَرَّرِ كذلك: إذا اشتَغَلَتِ الذِّمَّةُ بالأصلِ لم تَبرَأْ إلَّا بيَقينٍ
[2324] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/ 275)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 55). احتياطًا للتَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ مِن أن لا تُؤَدَّى على الوَجهِ الذي شُرِعَت عليه يَقينًا، أو ظنًّا يَقومُ مَقامَه
[2325] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (3/ 73). .
الثَّاني: التَّمَسُّكُ بأصالةِ الحُرمةِ:ومُقتَضاه أنَّ ما تَأكَّدَت حُرمَتُه مِنَ الذَّواتِ والأفعالِ فإنَّه يَبقى مَحكومًا له بالحُرمةِ حتَّى يَقومَ مِنَ الأدِلَّةِ ما يَرفعُ عنه ذلك الوَصفَ، ويَنقُلُه مِن حَيِّزِ التَّحريمِ إلى حَيِّزِ الإباحةِ، ولا يَكفي في ذلك مُجَرَّدُ الاحتِمالِ، وهو ما عَبَّرَ عنه الفُقَهاءُ بقَولِهم: "الاحتياطُ في بابِ الحُرمةِ واجِبٌ"
[2326] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (30/ 296)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/ 72)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (3/ 421). ، وكذلك: "بابُ الحُرمةِ مَبنيٌّ على الاحتياطِ"
[2327] ((المبسوط)) للسرخسي (17/ 100) و(4/ 207) و(5/ 133)، ((فتح باب العناية)) للقاري (2/ 15)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (3/ 115). .
الثَّالِثُ: التَّمَسُّكُ بأصالةِ العَدَمِ: ومُقتَضاه أنَّ كُلَّ شَيءٍ طارِئٍ فإنَّه مَحكومٌ له بعَدَمِ الوُجودِ حتَّى يَثبُتَ خِلافُه بدَليلٍ مُعتَبَرٍ، وبِناءً على ذلك فإنَّ مَن تَعَلَّق بذِمَّتِه حَقٌّ مِنَ الحُقوقِ يَقينًا، وحَصَلَ له بَعدَ ذلك شَكٌّ هَل فعَلَه وأتى به أو أنَّه لم يَأتِ به؟ فإنَّه يَبني على اليَقينِ -وهو عَدَمُ الفِعلِ- ويَأتي به، وهو ما عَبَّرَ عنه الفُقَهاءُ بقَولِهم: "الأصلُ عَدَمُ الفِعلِ"، وقَولِهم: "مَن شَكَّ هَل فعَلَ أو لا، فالأصلُ أنَّه لم يَفعَلْ"
[2328] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 55). .