موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: تَقويمُ أهلِ المَعرِفةِ مُعتَبَرٌ شَرعًا


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت هذه القاعِدةُ بصيَغٍ مُختَلِفةٍ، مِنها: صيغةُ: "يُرجَعُ في مَعرِفةِ قيَمِ المُتلَفاتِ إلى تَقويمِ المُقَوِّمينَ إذا لم يَعرِفِ القيمةَ بنَفسِه" [2237] يُنظر: ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (1/266). . وصيغةُ: "ما تَوقَّف على التَّقويمِ وعُرِضَ على أهلِ الخِبرة وحَكَموا بالتَّقويمِ تَقريبًا فهو المُتَّبَعُ في سائِرِ الأبوابِ وإن تَطَرَّقَ إليه تَقديرُ النُّقصانِ ظَنًّا" [2238] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/400). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما يَتَوقَّفُ على التَّقويمِ فإنَّه يُعرَضُ على أهلِ الخِبرةِ، فإذا حَكَموا بالتَّقويمِ فهو المُتَّبَعُ، وهذا مُتَّبَعٌ في سائِرِ أبوابِ الفِقهِ وإن تَطَرَّقَ إليه تَقديرُ النُّقصانِ ظَنًّا، فإذا أرَدنا تَقويمَ سِعرِ شَيءٍ وجَبَ الرُّجوعُ فيه إلى أهلِ الخِبرةِ بأسعارِ ذلك الشَّيءِ، وكذلك يُرجَعُ في مَعرِفةِ قيَمِ المُتلَفاتِ إلى تَقويمِ المُقَوِّمينَ إذا لم يَعرِفِ الإنسانُ القيمةَ بنَفسِه، أمَّا إذا عَرَف فلا يَرجِعُ [2239] يُنظر: ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (1/266)، ((المعتمد)) للبصري (2/34)، ((المنثور)) للزركشي (1/400). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (المَرجِعُ في كُلِّ شَيءٍ إلى الصَّالِحينَ مِن أهلِ الخِبرةِ بهـ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الرُّجوعَ إلى تَقويمِ أهلِ المَعرِفةِ هو المُعتَبَرُ شَرعًا؛ لأنَّ المَرجِعَ في كُلِّ شَيءٍ إلى الصَّالِحينَ مِن أهلِ المَعرِفةِ والبَصيرةِ به.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة: 95] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَ اللهِ تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يَدُلُّ على أنَّه يُرجَعُ في مَعرِفةِ المِثلِ والقيمةِ إلى قَولِ عَدلَينِ مِن أهلِ الخِبرةِ، فيُرجَعُ في مَعرِفةِ المُماثَلةِ بَينَ الصَّيدِ المَقتولِ وبَينَ النَّعَمِ إلى عَدلَينِ مِن أهلِ المَعرِفةِ [2240] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (1/395)، ((عمدة الحازم)) لابن قدامة (ص: 191). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أفاءَ اللهُ على رَسولِه خَيبَرَ فأقَرَّهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَما كانوا، وجَعَلَها بَينَه وبَينَهم، فبَعَث عَبدَ اللَّهِ بنَ رَواحةَ فخَرَصَها عليهم)) [2241] أخرجه أبو داود (3414) واللَّفظُ له، وأحمد (14953). صَحَّحه شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((سُنَن أبي داود)) (3414)، وصَحَّحه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3414)، وصَحَّح إسناده العيني في ((نخب الأفكار)) (12/344). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَبعَثُ عَبدَ اللَّهِ بنَ رَواحةَ رَضِيَ اللهُ عنه إلى اليَهودِ، فيَخرِصُ عليهمُ النَّخلَ، وهو اجتِهادٌ في مَعرِفةِ قَدرِ الثَّمَرِ وإدراكِه، فهو نَوعٌ مِنَ المَقاديرِ، كَتَقويمِ المُتلَفاتِ، وهو تَقديرٌ يُشبِهُ التَّقويمَ، فإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما مَبنيٌّ على الحَدْسِ والتَّخمينِ [2242] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/174)، ((العزيز)) للرافعي (3/79)، ((النجم الوهاج)) للدميري (10/264). .
3- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (المَرجِعُ في كُلِّ شَيءٍ إلى الصَّالِحينَ مِن أهلِ الخِبرةِ بهـ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- نُقصانُ الثَّمَنِ يَصيرُ مَعلومًا بإخبارِ أهلِ الخِبرةِ الخالينَ عنِ الغَرَضِ، وذلك بأن تُقَوَّمَ السِّلعةُ سالِمةً ثُمَّ تُقَوَّمَ مَعيبةً، فما كان بَينَ القيمَتَينِ مِنَ التَّفاوُتِ يُنسَبُ إلى الثَّمَنِ المُسَمَّى، وعلى مُقتَضى تلك النِّسبةِ يَرجِعُ المُشتَري على البائِعِ بالنُّقصانِ [2243] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 68)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/354). .
2- إذا ادَّعى المُرتَهِنُ هَلاكَ الرَّهنِ، وهو مِمَّا يَخفى، فأرَدنا مَعرِفةَ قيمَتِه، فإنِ اتَّفقَ الرَّاهِنُ والمُرتَهِنُ على قيمَتِه فلا كَلامَ، وإنِ اتَّفقا في صِفتِه واختَلَفا في قيمَتِه سُئِلَ أهلُ الخِبرةِ عن قيمةِ ما هذه صِفَتُه، وعُمِلَ عليها [2244] يُنظر: ((عيون المسائل)) للقاضي عبد الوهاب (ص: 542). .
3- إذا عَلِمَ النَّاسُ وشَهدوا أنَّ فُلانًا خَبيرٌ بالطِّبِّ أو تَقويمِ السِّلَعِ ونَحوِ ذلك، وثَبَتَ عِندَ الحاكِمِ أنَّه عالِمٌ بذلك دونَهم، أو أنَّه أعلَمُ مِنهم بذلك، ثُمَّ نازَعَ الشُّهودُ الشَّاهِدونَ لأهلِ العِلمِ بالطِّبِّ والتَّقويمِ أهلَ العِلمِ بذلك، وجَبَ تَقديمُ قَولِ أهلِ العِلمِ بالطِّبِّ والتَّقويمِ على قَولِ الشُّهودِ الذينَ شَهِدوا لهم [2245] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (1/139). .
4- يُقَوَّمُ مَبلَغُ تَرِكةِ المَيِّتِ عِندَ إخراجِ الوصيَّةِ وتَقسيمِ الميراثِ قيمةَ عَدلٍ بتَقويمِ أهلِ البَصَرِ والعَدالةِ والمَشهورينَ بصِدقِ المَقالةِ [2246] يُنظر: ((الفتاوى الهندية)) (6/349). .
5- إذا كان المُساهِمُ في شَرِكةٍ قدِ اقتَنى الأسهُمَ بقَصدِ التِّجارةِ زَكَّاها زَكاةَ عُروضِ التِّجارةِ، فإذا جاءَ حَولُ زَكاتِه وهيَ في مِلكِه زَكَّى قيمَتَها السُّوقيَّةَ، وإذا لم يَكُنْ لها سوقٌ زَكَّى قيمَتَها بتَقويمِ أهلِ الخِبرةِ، فيُخرِجُ رُبُعَ العُشرِ (2.5) مِن تلك القيمةِ، ومِنَ الرِّبحِ إذا كان للأسهُمِ رِبحٌ [2247] يُنظر: ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) (13/683)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (7/5129). .

انظر أيضا: