الفَرعُ السَّادِسُ: القياسُ في العِباداتِ وما يَتَعَلَّقُ بها
المُرادُ بالعِباداتِ: أُصولُ العِباداتِ، وهيَ أعظَمُ العِباداتِ وأدخَلُها في التَّعَبُّدِ، كالصَّلواتِ، والزَّكَواتِ، والصِّيامِ، والحَجِّ. بخِلافِ الكَفَّاراتِ
.
ومَثَّل الأُصوليُّونَ له بالإيماءِ في الصَّلاةِ للعاجِزِ عن الإتيانِ بها؛ قياسًا على صَلاةِ القاعِدِ بالنِّسبةِ للعاجِزِ عن القيامِ، بجامِعِ العَجزِ عن الإتيانِ بها
.
حُكمُ إجراءِ القياسِ في العِباداتِ وما يَتَعَلَّقُ بها:
يَجوزُ القياسُ في العِباداتِ إذا ظَهَرَت العِلَّةُ فيها. وهو مَذهَبُ المالكيَّةِ
، والشَّافِعيَّةِ
، والحَنابِلةِ
.
وشَرطُه: ألَّا يُخالِفَ القياسُ نَصًّا أو إجماعًا، وإلَّا فلا يَصِحُّ القياسُ، فلا يَجوزُ قياسُ الصَّلواتِ بَعضِها على بَعضٍ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ مَثَلًا
.
قال الغَزاليُّ: (رَأى الشَّافِعيُّ فيه الكَفَّ عن القياسِ في العِباداتِ، إلَّا إذا ظَهَرَ المَعنى ظُهورًا لا يبقى مَعَه رَيبٌ؛ ولذلك لم يَقِسْ على التَّكبيرِ والتَّسليمِ والفاتِحةِ والرُّكوعِ والسُّجودِ غَيرَها، بَل لم يَقِسْ على الماءِ في الطَّهاراتِ غَيرَه، ولم يَقِسِ الأبدالَ والقِيَمَ في الزَّكواتِ على المنصوصاتِ)
.
أدِلَّةُ جَوازِ القياسِ في العِباداتِ وما يَتَعَلَّقُ بها إذا ظَهَرَت العِلَّةُ فيها:1- عُمومُ أدِلَّةِ حُجِّيَّةِ القياسِ؛ فقد دَلَّت على جَوازِ القياسِ في جَميعِ الأحكامِ الفِقهيَّةِ، ولم تُفَرِّقْ بَينَ ما يَخُصُّ العِباداتِ أو المُعامَلاتِ، والمَرجِعُ في ذلك هو مَعرِفةُ العِلَّةِ التي مِن أجلِها شُرِعَ الحُكمُ، فمَتى ما عُرِفت في الحُكمِ المَنصوصِ على حُكمِه، ووُجِدَت في الفرعِ، فإنَّه يَصِحُّ القياسُ
.
2- أنَّ أُصولَ العِباداتِ أحكامٌ شَرعيَّةٌ، فيَجوزُ إثباتُها بالقياسِ كسائِرِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ بجامِعِ ما يَشتَرِكانِ فيه مِن المَصالِحِ النَّاشِئةِ مِن القياسِ، تَكثيرًا لتلك المَصالِحِ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- الجَمعُ بَينَ الصَّلاتَينِ في غَيرِ عَرَفةَ ومُزدَلِفةَ:أجمَعَ الفُقَهاءُ على أنَّ الجَمعَ بَينَ الظُّهرِ والعَصرِ في وقتِ الظُّهرِ بعَرَفةَ سُنَّةٌ، وبَينَ المَغرِبِ والعِشاءِ بالمُزدَلفةِ أيضًا في وَقتِ العِشاءِ سُنَّةٌ أيضًا. واختَلفوا في الجَمعِ في غَيرِ هَذَينِ المَكانينِ: فأجازَه الجُمهورُ على اختِلافٍ بَينَهم في المَواضِعِ التي يَجوزُ فيها مِن التي لا يَجوزُ، ومَنَعَه أبو حَنيفةَ وأصحابُه بإطلاقٍ.
ومِن أسبابِ اختِلافِهم: اختِلافُهم في إجازةِ القياسِ في ذلك، وهو أن يُلحَقَ سائِرُ الصَّلواتِ في السَّفرِ بصَلاةِ عَرَفةَ والمُزدَلفةِ، أي: أن يُجازَ الجَمعُ قياسًا على تلك، فيُقالَ مَثَلًا: صَلاةٌ وجَبَت في سَفَرٍ، فجازَ أن تُجمَعَ. أصلُه جَمعُ النَّاسِ بعَرَفةَ والمُزدَلِفةِ
.
2- المَسحُ على الجَورَبَينِ:اختَلف الفُقَهاءُ في حُكمِ المَسحِ على الجَورَبَينِ، ومِن أسبابِ اختِلافِهم: اختِلافُهم في أنَّه هَل يُقاسُ على الخُفِّ غَيرُه أم هيَ عِبادةٌ لا يُقاسُ عليها ولا يُتَعَدَّى بها مَحَلُّها؟
.
فاستَدَلُّوا على الجَوازِ بقياسِ الجَورَبِ على الخُفِّ؛ فإنَّه لا يَظهَرُ بَينَهما فَرقٌ مُؤَثِّرٌ، وإنَّما مَسَحوا على الجَورَبِ؛ لأنَّه عِندَهم بمَنزِلةِ الخُفِّ؛ إذ يَقومُ مَقامَ الخُفِّ في رِجلِ الرَّجُلِ، ويَذهَبُ فيه ويَجيءُ
.
3- الصَّلاةُ للزَّلزَلةِ والرِّيحِ والظُّلمةِ:استَحَبَّ بَعضُ الفُقَهاءِ الصَّلاةَ للزَّلزَلةِ، والرِّيحِ الشَّديدةِ، والظُّلمةِ، وغَيرِ ذلك مِن الآياتِ؛ قياسًا على كُسوفِ القَمَرِ والشَّمسِ؛ لنَصِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على العِلَّةِ في ذلك، وهو كونُها آيةً
، وهو مِن أقوى أجناسِ القياسِ عِندَهم؛ لأنَّه قياسُ العِلَّةِ التي نُصَّ عليها
.
وقيل: لا يَجوزُ القياسُ في العِباداتِ. وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ
، وبَعضِ المالكيَّةِ
، وحَكاه الكَرخيُّ عن أبي حَنيفةَ
.