الفَرعُ الثَّاني: القياسُ في المُقَدَّراتِ
المُرادُ مِن ذلك: أن يَرِدَ مِن الشَّارِعِ تَقديرٌ بعَدَدٍ في مَوضِعٍ يُمكِنُ فيه إدراكُ المَعنى الذي تَعلَّق به هذا المِقدارُ، ويوجَدُ هذا المَعنى في مَوقِعٍ آخَرَ، فهَل يَتَعَلَّقُ به ذلك التَّقديرُ كما تعَلَّق في المَوضِعِ الأوَّلِ
؟
مِثالُ ذلك: تَقديرُ النُّصُبِ في الزَّكاةِ، والمَواقيتِ في الصَّلاةِ، وتَقديرُ مُدَّةِ القَصرِ للمُسافِرِ، وتَقديرُ نِصابِ السَّرِقةِ، ومَقاديرُ الحُدودِ والكَفَّاراتِ، فهَل يُقاسُ عليها غَيرُها
؟
حُكمُ إجراءِ القياسِ في المُقدَّراتِ:يَجوزُ إثباتُ المُقدَّراتِ بالقياسِ إذا عُلمَت عِلَّتُها ولم يَمنَعْ مِنه مانِعٌ. وهو قَولُ مالِكٍ
، والشَّافِعيِّ
، وأحمَدَ
، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ
، والشَّافِعيَّةِ
، والحَنابِلةِ
، وحَكاه ابنُ السُّبكيِّ عن أكثَرِ أهلِ العِلمِ
.
أدِلَّةُ جَوازِ القياسِ في المُقدَّراتِ:1- عُمومُ الأدِلَّةِ السَّابقةِ في حُجِّيَّةِ القياسِ؛ فهيَ تَدُلُّ على جَوازِ القياسِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ مُطلَقًا مِن غَيرِ فَصلٍ بَينَ بابٍ وبابٍ؛ فالتَّخصيصُ ببابٍ دونَ بابٍ مُخالِفٌ لإطلاقِ تلك الأدِلَّةِ، فكان باطِلًا
.
ومِن هذه العُموماتِ: قَولُ اللهِ تعالى:
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] ، فأمَرَ بالاعتِبارِ عُمومًا، ولم يُفرِّقْ بَينَ الأحكامِ في المُقدَّراتِ وغَيرِها، فهو على عُمومِه في جَميعِها حتَّى يَقومَ دَليلٌ يَمنَعُ مِنه، ولم يَقُمْ دَليلٌ يمنَعُ مِنه، فهو جائِزٌ
.
2- إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على القياسِ مِن غَيرِ فرقٍ بَينَ بابٍ وبابٍ، حَكاه الطُّوفيُّ
.
3- أنَّ المُقدَّراتِ يَجوزُ إثباتُها بخَبَرِ الواحِدِ، فكذلك يَجوزُ إثباتُها بالقياسِ كسائِرِ الأحكامِ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ فُروعٌ فِقهيَّةٌ لدى بَعضِ الفُقَهاءِ، ومِنها:
1- تَقديرُ الدَّلوِ والبِئرِ؛ حَيثُ فرَّقَ الفُقَهاءُ في سُقوطِ الدَّوابِّ إذا ماتَت في الآبارِ، فقالوا: إذا ماتَت الدَّجاجةُ في البئرِ تُنزَحُ كذا، وذَكَروا دِلاءً مُعَيَّنةً، وفي الفأرةِ كذا، وليسَ هذا التَّقديرُ عن نَصٍّ ولا إجماعٍ ولا أثَرٍ، فيَكونُ عن قياسٍ، ولو صَحَّ في البَعضِ مِنها أثَرٌ فلا شَكَّ أنَّ ذلك لم يَصِحَّ في جَميعِ مَسائِلِها، فيَكونُ القَولُ بذلك في البَعضِ الآخَرِ قياسًا
.
2- تَقديرُ أقَلِّ الحَيضِ وأكثَرِه، وأقَلِّ الطُّهرِ وأكثَرِه، وأقَلِّ السَّفَرِ وأكثَرِه
.
3- تَقديرُ المَسحِ للرَّأسِ بثَلاثةِ أصابعَ قياسًا على مَسحِ الخُفِّ، وتَقديرُ الخَرقِ الذي يُعفى عنه في الخُفِّ بثَلاثةِ أصابعَ قياسًا على مَسحِه
.
وقيل: لا يَجوزُ القياسُ في المُقدَّراتِ. حَكاه الكَرخيُّ عن أبي حَنيفةَ
، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
، ووجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ
.