المَطلَبُ الأوَّلُ: أُصولُ الفِقهِ في عَهدِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم
حَرَصَ أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مُلازَمَتِه، وتَعَلُّمِ أُمورِ دينِهم مِنه، وقد أكسَبَتهم صُحبَتُهمُ الطَّويلةُ له في حَلِّهِ وتَرحالِهِ ومُشاهَدَتُهم للأحداثِ، فَهمًا نافِذًا، وفِكرًا صائِبًا للوُقوفِ على مَعرِفةِ أسرارِ الشَّريعةِ ومَقاصِدِها.
وكانوا رَضيَ اللهُ عنهم على عِلمٍ بلُغَتِهم، ومَعرِفةٍ بأسبابِ النُّزولِ، وبَصيرةٍ مِن أسرارِ التَّشريعِ ومَقاصِدِه؛ لقُربِ عَهدِهم بفَجرِ الرِّسالةِ، فلَم يكونوا في حاجةٍ إلى قَواعِدَ يَسيرونَ على ضَوئِها في استِنباطِ الأحكامِ مِن مَصادِرِها، كما لَم يكونوا في حاجةٍ إلى قَواعِدَ لمَعرِفةِ لُغَتِهم
.
ولمَّا توفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم يَأخُذونَ حُكمَ أيِّ حادِثةٍ مِنَ القُرآنِ، والسُّنَّةِ، فإذا لَم يَجِدوا في القرآنِ والسُّنَّةِ اجتَهَدوا وبَحَثوا عنِ الأشباهِ والأمثالِ، ومعرِفةِ العِلَلِ الشَّرعيَّةِ، فيَقيسونَ ما لَم يَكُنْ بما كان، ويَجتَهدونَ في مَعرِفةِ المَقاصِدِ والمَصالحِ، ونَحوِ ذلك، ويَحرِصونَ كُلَّ الحِرصِ على الأخذِ برَأيِ الجَماعةِ، وعَلى تلك الطَّريقةِ مَضى التَّابعونَ بإحسانٍ
.
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الكَلامَ في أُصولِ الفِقهِ وتَقسيمِها إلى: الكِتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، واجتِهادِ الرَّأيِ، والكَلامَ في وجهِ دَلالةِ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ على الأحكامِ: أمرٌ مَعروفٌ مِن زَمَنِ أصحابِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتَّابعينَ لَهم بإحسانٍ، ومَن بَعدَهم مِن أئِمَّةِ المُسلمينَ، وهم كانوا أقعَدَ بهذا الفنِّ وغَيرِه مِن فُنونِ العِلمِ الدِّينيَّةِ مِمَّن بَعدَهم، وقد كَتَبَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه إلى شُرَيحٍ: "اقضِ بما في كِتابِ اللهِ، فإن لَم يَكُنْ فبما في سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإن لَم يَكُنْ فبما اجتَمَعَ عليه النَّاسُ -وفي لَفظٍ- فبما قَضى به الصَّالحونَ؛ فإن لَم تجِدْ فإن شِئتَ أن تَجتَهِدَ رَأيَك"
. وكَذلك قال ابنُ مَسعودٍ وابنُ عَبَّاسٍ)
.
وعن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ يَزيدَ قال: (كَثُرَ النَّاسُ على عَهدِ عَبدِ اللَّهِ أي ابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه يَسألونَه، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ، لَقد أتى علينا زَمانٌ لَسنا نَقضي ولَسنا هناكَ، ثُمَّ قدَّرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنا بَلَغنا مِنَ الأمرِ ما تَرَونَ، فمَنِ ابتُليَ مِنكُم بقَضاءٍ بَعدَ اليَومِ فليَنظُرْ ما في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فليَقضِ به، فإن أتاه ما ليس في كِتابِ اللهِ فليَقضِ ما قَضى به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإن أتاه ما ليس في قَضاءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فليَقضِ ما قَضى به الصَّالحونَ، ولا يَقولَنَّ أحَدُكُم: إنِّي أرى، إنِّي أخافُ، فإنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَينَ ذلك أمرٌ مُشتَبِهٌ، فدَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك)
.
وكان عَصرُ الصَّحابةِ هو عَصرَ التَّفسيرِ التَّشريعيِّ، وفتحِ أبوابِ الاستِنباطِ فيما لا نَصَّ فيه مِنَ الوقائِعِ؛ فإنَّ رؤوسَ الصَّحابةِ صَدَرَت عنهم آراءٌ في تَفسيرِ نُصوصِ الأحكامِ في القُرآنِ والسُّنَّةِ، تُعَدُّ مَرجِعًا لتَفسيرِها وتَبيينِها، وصَدَرَت عنهم فتاوى بأحكامٍ في وقائِعَ لا نَصَّ فيها
.
وإذا كان استِنباطُ الفِقهِ ابتَدَأ بَعدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَصرِ الصَّحابةِ فإنَّ الفُقَهاءَ مِن بَينِهم ما كانوا يَقولونَ قَولًا مِن غَيرِ قَيدٍ ولا ضابطٍ.
فعَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قال في عِدَّةِ الحامِلِ المُتَوفَّى عنها زَوجُها: إنَّ عِدَّتَها بوضعِ الحَملِ، واستَدَلَّ بقَولِ اللهِ تعالى:
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وقال في ذلك: (لَنَزَلَت سورةُ النِّساءِ القُصرى بَعد الطُّولى)
، يَقصِدُ أنَّ سورةَ الطَّلاقِ مُتَأخِّرةٌ في النُّزولِ، وهو بهذا يُشيرُ إلى قاعِدةٍ مِن قَواعِدِ الأُصولِ، وهيَ أنَّ المُتَأخِّرَ يَنسَخُ المُتَقدِّمَ أو يُخَصِّصُه، فهو بهذا يَلتَزِمُ مِنهاجًا أُصوليًّا، وهكذا يَجِبُ أن يَتَقَرَّرَ أنَّ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم في اجتِهادِهم كانوا يَلتَزِمونَ مَناهجَ وإن لَم يُصَرِّحوا بها في كُلِّ الأحوالِ
.
وهذا الكَلامُ يُؤَكِّدُ القاعِدةَ الأُصوليَّةَ السَّابقةَ
في تَرتيبِ الفَهمِ والاجتِهادِ، وأنَّه لا يَصِحُّ الاجتِهادُ فيما ورَدَ به الكِتابُ والسُّنَّةُ، وهو ما أرساه عُلَماءُ الأُصولِ بقَولِهم: "لا اجتِهادَ في مَورِد النَّصِّ"، ويُؤَكِّدُ آخِرُ الكَلامِ القَواعِدَ الأُصوليَّةَ في القياسِ، ومَعرِفةَ العِلَّةِ لقياسِ أمرٍ على آخَرَ يَشتَرِكُ مَعَه فيها
.
وأيضًا فهناكَ الكَثيرُ مِنَ الأفعالِ فعَلَها الصَّحابةُ دونَ أن يكونَ هناكَ نَصٌّ، وإنَّما فعَلوها لِما فيها مِنَ المَصالحِ الرَّاجِحةِ، كاتِّخاذِ الدَّواوينِ والسِّجِلَّاتِ والتَّاريخِ، وجَمعِ المُصحَفِ وتَنقيطِه، إلى غَيرِ ذلك، وهذا عِندَ الأُصوليِّينَ يُعرَفُ بالمَصالحِ المُرسَلةِ
.
وهَكَذا نَجِدُ أنَّ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم قد وضَعوا مَناهجَ لاستِنباطِ الأحكامِ، وإن لَم يُدَوِّنوها؛ لأنَّ الحاجةَ لَم تَكُنْ داعيةً إلى ذلك، ونَقَلوها إلى التَّابعينَ الذينَ لَم يُضطَرُّوا بدَورِهم إلى تَدوينِها، واستَمَرَّ هذا التَّناقُلُ التِّلقائيُّ لهذه القَواعِدِ والمَناهجِ الأُصوليَّةِ الاستِنباطيَّةِ إلى أن دَعَتِ الحاجةُ إلى تَدوينِها
.
قال قطب الدين القَسطَلَّانيُّ: (إنَّ السَّلَفَ الأوَّلَ لَم يُدَوِّنوا ما قامَ بهم مِنَ العُلومِ والمَعارِفِ، حَتَّى إنَّ النَّحوَ والفِقهَ لَم يُدَوَّنا على الأبوابِ إلَّا بَعدَهم، وإنَّما كانوا يَتَلَقَّونَ العِلمَ تَلقينًا بَعضُهم مِن بَعضٍ بالمُذاكَراتِ والمُناظَراتِ)
.