المَطلَبُ الثَّاني: تَتبُّعُ رُخَصِ المَذاهِبِ
المُرادُ بتَتَبُّعِ الرُّخَصِ أن يَأخُذَ المُكَلَّفُ في مَسألةٍ ما بأخَفِّ الأقوالِ فيها، دونَ اعتِبارٍ للقَولِ الرَّاجِحِ
. وهذا خُلاصةُ ما عَبَّرَ عنه العُلَماءُ.
قال المَحَلِّيُّ: (أن يَأخُذَ المُكَلَّفُ مِن كُلٍّ مِنَ المَذاهبِ ما هو الأهونُ فيما يَقَعُ مِنَ المَسائِلِ)
.
وقال المَرداويُّ: (كُلَّما وجَدَ رُخصةً في مَذهَبٍ عَمِلَ بها، ولا يَعمَلُ بغَيرِها في ذلك المَذهَبِ)
.
أمَّا حُكمُ تَتبُّعِ رُخَصِ المَذاهِبِ فالمُختارُ: أنَّه لا يَجوزُ تَتَبُّعُ رُخَصِ المَذاهِبِ. وهو الصَّحيحُ عِندَ بَعضِ الحَنَفيَّةِ
، ومِمَّنِ اختارَه مِنَ المالِكيَّةِ: ابنُ جُزَيٍّ
، ومِمَّنِ اختارَه مِنَ الشَّافِعيَّةِ: ابنُ الصَّلاحِ
، والرَّمليُّ
، وتاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ
، ومِمَّنِ اختارَه مِنَ الحَنابِلةِ
: ابنُ تَيميَّةَ
، وابنُ مُفلِحٍ
. وحُكيَ الإجماعُ على ذلك، ومِمَّن حَكاه ابنُ عبدِ البَرِّ
، وابنُ حَزمٍ
.
الأدِلَّةُ:1- أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر بالرَّدِّ إليه وإلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال اللهُ تعالى:
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 59] ، وتَتَبُّع الإنسانِ للرُّخَصِ مُضادٌّ للرُّجوعِ إلى اللهِ تعالى وإلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
.
2- أنَّ تَتَبُّعَ الرُّخَصِ مُؤَدٍّ إلى إسقاطِ التَّكليفِ في كُلِّ مَسألةٍ مُختَلَفٍ فيها؛ لأنَّ حاصِلَ الأمرِ مَعَ القَولِ بالتَّخييرِ أنَّ للمُكَلَّفِ أن يَفعَلَ إن شاءَ، ويَترُكَ إن شاءَ، وهو عَينُ إسقاطِ التَّكليفِ، بخِلافِ ما إذا تَقَيَّدَ بالتَّرجيحِ؛ فإنَّه مُتَّبِعٌ للدَّليلِ، فلا يَكونُ مُتَّبِعًا للهَوى ولا مُسقِطًا للتَّكليفِ
.
وقيلَ: تَتبُّعُ الرُّخَصِ جائِزٌ. وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ
، ونُسِبَ إلى أبي إسحاقَ المَرْوَزيِّ
.
وجاءَ في " قَراراتِ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلاميِّ
في دَورةِ مُؤتَمَرِه الثَّامِنِ المُنعَقِدِ مِن (1) إلى (7) مُحَرَّم (1414 هـ):
لا يَجوزُ الأخذُ برُخَصِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ لمُجَرَّدِ الهَوى؛ لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى التَّحَلُّلِ مِنَ التَّكليفِ، وإنَّما يَجوزُ الأخذُ بالرُّخَصِ بالضَّوابِطِ التَّاليةِ:
1- أن تَكونَ أقوالُ الفُقَهاءِ التي يتَرَخَّصُ بها مُعتَبَرةً شَرعًا، ولم توصَفْ بأنَّها مِن شَواذِّ الأقوالِ.
2- أن تَقومَ الحاجةُ إلى الأخذِ بالرُّخصةِ دَفعًا للمَشَقَّةِ، سَواءٌ كانت حاجةً عامَّةً للمُجتَمَعِ أم خاصَّةً فرديَّةً.
3- أن يَكونَ الآخِذُ بالرُّخَصِ ذا قُدرةٍ على الاختيارِ أو أن يَعتَمِدَ على مَن هو أهلٌ لذلك.
4- ألَّا يَتَرَتَّبَ على الأخذِ بالرُّخَصِ الوُقوعُ في التَّلفيقِ المَمنوعِ.
5- ألَّا يَكونَ الأخذُ بذلك القَولِ ذَريعةً للوُصولِ إلى غَرَضٍ غَيرِ مَشروعٍ.
6- أن تَطمَئِنَّ نَفسُ المُتَرَخِّصِ للأخذِ بالرُّخصةِ.