موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّاني: حُكمُ التَّلفيقِ في التَّقليدِ


اختَلَف العُلَماءُ في حُكمِ التَّلفيقِ؛ فمِنهم مَن قال: التَّلفيقُ في التَّقليدِ غَيرُ جائِزٍ مُطلَقًا. ومِمَّنِ اختارَه مِنَ الحَنَفيَّةِ: ابنُ عابِدينَ ، وعَبدُ الغَنيِّ النَّابلُسيُّ ، وبَعضُ المالِكيَّةِ المِصريِّينَ مِنهم خاصَّةً ، وبَعضُ الحَنابِلةِ، ومِنهمُ السَّفَّارينيُّ ، وهو الأصَحُّ عِندَ مُتَأخِّري الشَّافِعيَّةِ . وقال مَرعي الكَرميُّ: (اعلَمْ أنَّه قد ذَهَبَ كَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ إلى مَنعِ جَوازِ التَّقليدِ؛ حَيثُ أدَّى إلى التَّلفيقِ مِن كُلِّ مَذهَبٍ) .
وحَكى الحَصكَفيُّ الحَنَفيُّ وابنُ حَجَرٍ الهَيتميُّ وغَيرُهما الإجماعَ على أنَّ الحُكمَ المُلَفَّقَ باطِلٌ.
واستَدَلُّوا بأدِلَّةٍ، منها:
1- إذا جَمَعَ المُكَلَّفُ بَينَ قَولَي مُجتَهِدَينِ في مَسألةٍ واحِدةٍ، كالطَّهارةِ مَثَلًا، فإنَّ كِلا المُجتَهِدَينِ اللَّذَينِ قَلَّدَهما المُكَلَّفُ لو سُئِلَ أحَدُهما عن صَلاةِ المُلَفِّقِ التي أدَّاها فسَيَقولُ ببُطلانِها .
2- لو قُلْنا بجَوازِ التَّلفيقِ في التَّقليدِ لأدَّى ذلك إلى إفسادِ الشَّريعةِ، والتَّلاعُبِ فيها، واستِباحةِ جُلِّ المُحَرَّماتِ .
قال السَّفَّارينيُّ: (والقاعِدةُ: أنَّ كُلَّ ما أدَّى إلى مَحظورٍ فهو مَحظورٌ، وكُلُّ قَولٍ يَلزَمُ منه إباحةُ مُحَرَّمٍ فهو مَردودٌ) .
ومِنهم مَن قال: يَجوزُ التَّلفيقُ مطلقًا: ونَقَلَه الدُّسوقيُّ عنِ المَغارِبةِ مِنَ المالِكيَّةِ، ورَجَّحَه .
ومِنهم مَن قال: يَجوزُ بشُروطٍ، ومِن ذلك:
أ- أنَّه يُشتَرَطُ عَدَمُ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ قَصدًا، وهو رَأيُ بَعضِ الحَنابِلةِ، ومِنهم مَرعي الكَرميُّ ، والرُّحَيبانيُّ .
ب- أنَّه يُشتَرَطُ فيه عَدَمُ خَرقِ الإجماعِ، واختارَه بَعضُ الشَّافِعيَّةِ، ومِنهمُ ابنُ دَقيقِ العيدِ ، والقَرافيُّ ، والشَّاطِبيُّ ، والهَيتَميُّ .
ج- أن يَكونَ التَّلفيقُ في غَيرِ ما عمِلَ به تقليدًا، وهو رَأيُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ، واختارَه ابنُ الهُمامِ ، وابنُ أميرِ الحاجِّ ، وأميرُ بادشاه .
وجاءَ في " قَراراتِ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلاميِّ في دَورةِ مُؤتَمَرِه الثَّامِنِ المُنعَقِدِ مِن (1) إلى (7) مُحَرَّم (1414هـ):
يَكونُ التَّلفيقُ مَمنوعًا في الأحوالِ التَّاليةِ:
أ- إذا أدَّى إلى الأخذِ بالرُّخَصِ لمُجَرَّدِ الهَوى، أوِ الإخلالِ بأحَدِ الضَّوابِطِ المُبَيَّنةِ في مَسألةِ الأخذِ بالرُّخَصِ .
ب- إذا أدَّى إلى نَقضِ حُكمِ القَضاءِ.
ج- إذا أدَّى إلى نَقضِ ما عمِلَ به تَقليدًا في واقِعةٍ واحِدةٍ.
د- إذا أدَّى إلى مُخالَفةِ الإجماعِ أو ما يَستَلزِمُه.
هـ- إذا أدَّى إلى حالةٍ مُرَكَّبةٍ لا يُقِرُّها أحَدٌ مِنَ المُجتَهِدينَ.

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظَر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/ 417).
  2. (2) خلاصة التحقيق (ص:18، 26).
  3. (3) يُنظَر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/ 20).
  4. (4) ((التحقيق)) (ص: 171).
  5. (5) يُنظَر: ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) للهيتمي (4/ 325، 329)، ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (1/ 25).
  6. (6) ((رسالة في التلفيق)) ضمن ((مجموع رسائل العلامة مرعي الكرمي الحنبلي)) (3/ 443).
  7. (7) ((الدر المختار)) مع حاشية رد المحتار (1/ 75).
  8. (8) قال: (إنَّ كَثيرينَ يُقَلِّدونَ الأئِمَّةَ في بَعضِ المَسائِلِ، ولا يُراعونَ ذلك -أي: سائِرَ ما يَقولُ به المُجتَهِدُ الذي قَلَّدَه- فيَقَعونَ في وَرطةِ التَّلفيقِ، فتَبطُلُ أفعالُهم بالإجماعِ). ((الفتاوى الكبرى)) (4/ 76). وقال أيضًا: (فيَجوزُ تَقليدُه لغَيرِ الأربَعةِ مِمَّن يَجوزُ تَقليدُه، لا كالشِّيعةِ وبَعضِ الظَّاهريَّةِ، ويُشتَرَطُ مَعرِفتُه بمَذهَبِ المُقَلِّدِ بنَقلِ العَدلِ عن مِثلِه، وتَفاصيلِ تلك المَسألةِ أوِ المَسائِلِ المُقَلَّدِ فيها، وما يَتَعَلَّقُ بها على مَذهَبِ ذلك المُقَلَّدِ، وعَدَمُ التَّلفيقِ لو أرادَ أن يَضُمَّ إليها أو إلى بَعضِها تَقليدَ غَيرِ ذلك الإمامِ؛ لِما تَقَرَّرَ أنَّ تَلفيقَ التَّقليدِ، كتَقليدِ مالِكٍ -رَحِمَه اللهُ تعالى- في عَدَمِ نَجاسةِ الكَلبِ. والشَّافِعيِّ -رَضيَ اللهُ تَبارَكَ وتعالى عنه- في مَسحِ بَعضِ الرَّأسِ، فمُمتَنِعٌ اتِّفاقًا، بَل قيلَ: إجماعًا). ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) (4/ 325- 326).
  9. (9) يُنظَر: ((التصحيح والترجيح)) لقاسم بن قلطوبغا (ص: 122- 124).
  10. (10) يُنظَر: ((الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام)) للقرافي (ص: 233- 234)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (6/ 52)، ((التمذهب)) للرويتع (2/ 1077).
  11. (11) يُنظَر: ((التحقيق في بطلان التلفيق)) للسفاريني (ص: 171 - 172)، ((التمذهب)) للرويتع (2/ 1079).
  12. (12) ((التحقيق)) (ص: 172).
  13. (13) ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/ 20).
  14. (14) ((رسالة في التلفيق)) ضمن ((مجموع رسائل العلامة مرعي الكرمي الحنبلي)) (3/ 444).
  15. (15) ((مطالب أولي النهى)) (1/ 391). فقد قال: (والذي أذهَبُ إليه وأختارُه: القَولُ بجَوازِ التَّقليدِ في التَّلفيقِ، لا بقَصدِ تَتَبُّعِ ذلك؛ لأنَّ مَن تَتَبَّع الرُّخَصَ فَسَق، بَل حَيثُ وقَعَ ذلك اتِّفاقًا، خُصوصًا مِنَ العَوامِّ الذينَ لا يَسَعُهم غَيرُ ذلك).
  16. (16) يُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 377).
  17. (17) ((نفائس الأصول)) (4/ 622).
  18. (18) يُنظَر: ((الموافقات)) (5/ 103).
  19. (19) ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) (4/ 306).
  20. (20) ((التحرير)) لابن الهمام (ص: 551).
  21. (21) ((التقرير والتحبير)) (3/ 351).
  22. (22) ((تيسير التحرير)) (4/ 253- 255).
  23. (23) يُنظَر: ((قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي))، الدورات (2-24)، القرارات (1-238) (ص: 225).
  24. (24) سيأتي ذِكرُها.