المَبحَثُ الثَّاني: تَعريفُ أُصولِ الفِقهِ باعتِبارِه لَقَبًا
يُعَرَّفُ أُصولُ الفِقهِ بأنَّه: مَعرِفةُ دَلائِلِ الفِقهِ إجمالًا، وكَيفيَّةِ الاستِفادةِ مِنها، وحالِ المُستَفيدِ
. وهذا هو التَّعريفُ المُختارُ.
وقيلَ: هو مَجموعُ طُرُقِ الفِقهِ على سَبيلِ الإجمالِ، وكَيفيَّةُ الاستِدلالِ بها، وكَيفيَّةُ حالِ المُستَدِلِّ بها
.
وقيلَ: هو أدِلَّةُ الفِقهِ وجِهاتُ دَلالاتِها على الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وكَيفيَّةُ حالِ المُستَدِلِّ بها مِن جِهةِ الجُملةِ لا مِن جِهةِ التَّفصيلِ
.
وقيلَ: هو العِلمُ بالقَواعِدِ التي يُتَوصَّلُ بها إلى استِنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ الفرعيَّةِ عن أدِلَّتِها التَّفصيليَّةِ
.
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:(مَعرِفةُ) المَعرِفةُ: الإدراكُ، وهيَ تَشمَلُ القطعَ والظَّنَّ؛ لذا اختيرَت هنا لمُناسَبَتِها للمَسائِلِ الأُصوليَّةِ؛ لأنَّه يَكفي فيها الدَّليلُ الظَّنِّيُّ، فيَكونُ التَّصديقُ بها أعَمَّ مِن أن يَكونَ قَطعيًّا أو ظَنِّيًّا
.
(دَلائِلِ): جمعُ دَلالةٍ
بمعنى دليلٍ، والمُرادُ بالدَّليلِ: ما يُمكِنُ التَّوصُّلُ بالنَّظَرِ فيه إلى إدراكِ حُكمٍ شَرعيٍّ على سَبيلِ العِلمِ أوِ الظَّنِّ، وهي جنسٌ في التَّعريفِ تشملُ الدَّليلَ التَّفصيليَّ وهو محلُّ نظرِ الفَقيهِ؛ لأنَّ الفقيهَ يبحثُ عن الدَّلائلِ مِن جهةِ دَلالتِها على المسألةِ المعيَّنةِ، مثلُ: قَولِ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ، وقَولِ اللهِ سُبحانَه:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [يونس: 87] ، وقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة: 190] . فهذه الآياتُ الكَريمةُ يُتَوصَّلُ مِن خلالِها إلى إدراكِ أحكامٍ شَّرعيَّةٍ تفصيليَّةٍ مِن وُجوبِ الوفاءِ بالعَقدِ، وإقامةِ الصَّلاةِ، والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، وتشمَلُ الأدلةَ الإجماليَّةَ، وهي محلُّ نظرِ الأصوليِّ، ولذا قُيِّد التَّعريفُ بها
، كما سيأتي.
(الفِقهِ) وهو العِلمُ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ العَمَليَّةِ، المُكتَسَبُ مِن أدِلَّتِها التَّفصيليَّةِ
كما تَقدَّمَ، وهذا القَيدُ أخرَجَ مَعرِفةَ أدِلَّةِ غَيرِ الفِقهِ، كمَعرِفةِ أدِلَّةِ التَّوحيدِ مَثَلًا
.
(إجمالًا): إشارةٌ إلى أنَّ المُعتَبَرَ في حَقِّ الأُصوليِّ مَعرِفةُ الأدِلَّةِ مِن حَيثُ الإجمالُ، ككَونِ الإجماعِ حُجَّةً، وكَونِ الأمرِ للوُجوبِ، بخِلافِ عِلمِ الفِقهِ؛ فالفَقيهُ يَبحَثُ عنِ الدَّلائِلِ مِن جِهةِ دَلالَتِها على المَسألةِ المُعَيَّنةِ
.
(كَيفيَّةِ الاستِفادةِ مِنها): أي: مَعرِفةُ كَيفيَّةِ استِفادةِ الفِقهِ مِنَ الدَّلائِل، وهذا يَشمَلُ طُرُقَ الدَّلالةِ اللَّفظيَّةِ والعَقليَّةِ، وطُرُقَ نَصبِ الدَّليلِ الذي يوصِلُ إلى مَعرِفةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ، سَواءٌ كان الدَّليلُ نَصًّا مِن قُرآنٍ أو سُنَّةٍ ونَحوِهما، أم مَعقولًا مِنَ النَّصِّ، كالقياسِ والاستِصلاحِ وغَيرِهما، وهذا يُدخِلُ ما ذَكَرَه الأُصوليُّونَ في دَلالاتِ الألفاظِ، مِثلُ العامِّ والخاصِّ، والمُطلَقِ والمُقَيَّدِ، والمَنطوقِ والمَفهومِ، كما يُدخِلُ طُرُقَ مَعرِفةِ العِلَّةِ المُستَنبَطةِ، ونَحوَ ذلك
، ولا بُدَّ أيضًا مِن مَعرِفةِ ما يَتَعَلَّقُ بالتَّعارُضِ بَينَ الأدِلَّةِ، وكَيفيَّةِ دَفعِ هذا التَّعارُضِ؛ فالغَرَضُ مِنَ البَحثِ عن أحوالِ الأدِلَّةِ إنَّما هو التَّوصُّلُ إلى استِنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ مِنَ الأدِلَّةِ، وهذه الأدِلَّةُ المُفيدةُ للأحكامِ مِنها ما هو ظَنِّيٌّ، فهيَ قابلةٌ للتَّعارُضِ، وعِندَ التَّعارُضِ لا بُدَّ في استِفادةِ الحُكمِ مِن دَليلِه مِنَ التَّرجيحِ بَينَه وبَينَ مُعارِضِه إن لَم يُمكِنِ الجَمعُ
.
(حالِ المُستَفيدِ): أي: مَعرِفةُ حالِ المُستَفيدِ، وهو طالِبُ حُكمِ اللَّهِ تعالى، فيَدخُلُ فيه المُقَلِّدُ والمُجتَهِدُ؛ إذ كُلٌّ مِنهما يَستَفيدُ الأحكامَ، وإن كان طَريقُ الاستِفادةِ مُختَلفًا؛ لأنَّ المُجتَهدَ يَستَفيدُ الأحكامَ مِنَ الأدِلَّةِ، والمُقَلِّدَ يَستَفيدُها مِنَ المُجتَهِدِ
، وقيلَ: المُرادُ بالمُستَفيدِ هو المُجتَهدُ، وإنَّما ذُكِر المُقَلِّدُ وما يَتَعَلَّقُ بالتَّقليدِ استِطرادًا لذِكرِ المُجتَهدِ، ولأنَّه تابعٌ له
.