المَسألةُ الثَّالثةُ: إطلاقاتُ المَكروهِ
يُطلَقُ المَكروهُ أربَعةَ إطلاقاتٍ:الإطلاقُ الأوَّلُ: يُطلَقُ المَكروهُ على الحَرامِ
.
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا * وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 31-38] ، أي: محرَّمًا
.
وهذا الإطلاقُ مَرويٌّ عنِ الأئِمَّةِ المُتَقَدِّمينَ، وذلك كراهةَ أن يتناوَلَهم قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [النحل: 116] ، فكرِهوا إطلاقَ لَفظِ التَّحريمِ
.
فقَد رُوِيَ أنَّ أبا يوسُفَ قال لأبي حَنيفةَ: إذا قُلتَ في شيءٍ: أكرَهُه. فما رَأيُك فيه؟ قال: التَّحريمُ
.
وكثيرًا ما يَقولُ الشَّافِعيُّ: (وأكرَهُ كذا) وهو يُريدُ التَّحريمَ
.
وقال أحمَدُ في الجَمعِ بينَ الأُختينِ بمِلكِ اليَمينِ: (أكرَهُه، ولا أقولُ: هو حَرامٌ). ومَذهَبُه: تَحريمُه، وإنَّما تَورَّعَ عن إطلاقِ لَفظِ التَّحريمِ.
وقال في رِوايةِ ابنِه عَبدِ اللَّهِ: (أكرَهُ أكلُ لَحمِ الحيَّةِ والعَقرَبِ؛ لأنَّ الحيَّةَ لَها نابٌ، والعَقرَبَ لَها حُمَةٌ)
. ولا يَختَلِفُ مَذهَبُه في تَحريمِه.
قال ابنُ حامِد: (ومِن ذلك ما نُقِلَ عنه أنَّه قال: أَكرهُ الصَّلاةَ في القُبُورِ، وأَكرهُ أكلَ الحيَّةِ والعقربِ، وأَكرهُ النَّفخَ في صلاتِهِ، والقراءةَ بألحان. كلٌّ يقولُ: أكرهُهُ، لا خِلافَ عنْدهُ أنَّ ذلك النَّهي، فإذا ثَبَتَ في هذه الأصولِ كلِّها علمتَ بذلك أنَّ إطلاقاتِ الأجوبةِ بالكراهيةِ كالجواباتِ بالتَّحريم سَواء)
.
فالسَّلَفُ كانوا يَستَعمِلونَ الكراهةَ في مَعناها الذي استُعمِلَت فيه في كلامِ اللهِ ورَسولِه، ولَكِنِ المُتَأخِّرونَ اصطَلَحوا على تَخصيصِ الكراهةِ بما ليس بمُحَرَّمٍ، وتَركُه أرجَحُ مِن فِعلِه، ثُمَّ حَمَلَ مَن حَمَلَ مِنهم كلامَ الأئِمَّةِ على الاصطِلاحِ الحادِثِ، وذَكرَ ابنُ القَيِّمِ أنَّه قَد غَلِطَ كثيرٌ مِنَ المُتَأخِّرينَ مِن أتباعِ الأئِمَّةِ على أئِمَّتِهم بسَبَبِ ذلك؛ حيثُ تَورَّعَ الأئِمَّةُ عن إطلاقِ لَفظِ التَّحريمِ، وأطلَقوا لَفظَ الكراهةِ؛ فنَفى المُتَأخِّرونَ التَّحريمَ عَمَّا أطلَقَ عليه الأئِمَّةُ الكراهةَ. ثُمَّ سَهُلَ عليهم لَفظُ الكراهةِ، وخَفَّت مُؤنَتُه عليهم، فحَمَله بَعضُهم على التَّنزيهِ، وتَجاوَزَ به آخَرونَ إلى كراهةِ تَركِ الأَولى. وهذا كثيرٌ جدًّا في تَصَرُّفاتِهم؛ فحَصَلَ بسَبَبِه غَلَطٌ عَظيمٌ على الشَّريعةِ وعلى الأئِمَّةِ
.
الإطلاقُ الثَّاني: يُطلَقُ المَكروهُ على ما نُهي عنه نَهيَ تَنزيهٍ لا تَحريمٍ، وهو الذي أشعَرَ بأنَّ تَركَه خيرٌ مِن فِعلِه، وإن لَم يَكُنْ عليه عِقابٌ، وهو المَقصودُ بالمَكروهِ هنا
.
فإنَّه إذا أُطلقَ لَفظُ المَكروهِ في كلامِ المتأخِّرينَ مِن الفُقهاءِ انصَرَف إلى المَكروهِ كراهةَ تَنزيهٍ؛ لأنَّ كلًّا مِنَ الأحكامِ الأربَعةِ خُصَّ باسمٍ غَلَبَ عليه، كالواجِبِ، والمَندوبِ، والمُباحِ، والحَرامِ؛ فاقتَضى ذلك اختِصاصَ المَكروهِ باسِمٍ غالبٍ عليه كغَيرِه مِنَ الأحكامِ
.
الإطلاقُ الثَّالِثُ: يُطلَقُ المَكروهُ ويُرادُ به تَركُ الأَولى، أي: تَركُ ما مَصلَحَتُه راجِحةٌ، وإن لَم يَكُنْ مَنهيًّا عنه، كتَركِ المَندوباتِ (مِثلُ صَلاةِ الضُّحى)؛ لا لنَهيٍ ورَدَ عنه، ولَكِن لكثرةِ فَضلِه وثَوابِه
.
الإطلاقُ الرَّابعُ: يُطلَقُ المَكروهُ ويُرادُ به ما وقَعَتِ الرِّيبةُ والشُّبهةُ في تَحريمِه، وإن كان غالبُ الظَّنِّ حِلَّه، كلَحمِ الضَّبُعِ
.
لَكِن ذَكَر الغَزاليُّ أنَّ هذا الإطلاقَ فيه نَظَرٌ، وعَلَّلَه بأنَّ مَن أدَّاه اجتِهادُه إلى تَحريمِه فهو عليه حَرامٌ.
ومَن أدَّاه اجتِهادُه إلى حِلِّه فلا مَعنى للكراهيةِ فيه، إلَّا إذا كان في نَفسِه حَزازةٌ مِن شُبهةِ الخَصمِ ووقَعَت في قَلبِه، فلا يَقبُحُ إطلاقُ لَفظِ الكراهةِ؛ لِما فيه مِن خَوفِ التَّحريمِ، وإن كان غالِبُ الظَّنِّ الحِلَّ، ويَتَّجِهُ هذا على مَذهَبِ مَن يَقولُ: المُصيبُ واحِدٌ. فأمَّا مَن صَوَّبَ كُلَّ مُجتَهِدٍ فالحِلُّ عِندَه مَقطوعٌ به إذا غَلبَ على ظَنِّه الحِلُّ
.