المَطلَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: هَل أمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واحِدًا مِنَ الصَّحابةِ أمرٌ لغَيرِه؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في أنَّ الأمرَ لأحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ هَل هو أمرٌ لغَيرِه أو لا؟
والرَّاجِحُ: أنَّه إذا تَوجَّهَ الأمرُ إلى واحِدٍ مِنَ الصَّحابةِ فإنَّ غَيرَه يَدخُلُ في ذلك الأمرِ، ويَشمَلُهم حُكمُه.
وهذا مَذهَبُ عَدَدٍ مِنَ المالِكيَّةِ
، مِثلُ الأبياريِّ
، والقَرافيِّ
، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ كالسَّمعانيِّ
، وأكثَرِ الحَنابِلةِ
، ومِنهمُ المَرداويُّ
.
الأدِلَّةُ:1- قَولُ اللهِ تعالى:
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] .
وَجهُ الدَّلالةِ:ظاهرُه يُفيدُ أنَّ ما كان مِنَ الحُكمِ الخاصِّ لشَخصٍ بعَينِه في القُرآنِ، فجَميعُ النَّاسِ مُنذَرونَ به، ولا يَكونُ إلَّا مَعَ تَكليفِهم لَفظَه وإيقاعِه
.
2- أنَّ الأُمورَ التي خَصَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها الواحِدَ، قد بَيَّنَ عن وَجهِ التَّخصيصِ فيها، مِثلُ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَردٍ عن ذَبحِ الجَذَعِةِ مِنَ الماعِزِ:
((اذبَحْها، ولَنْ تَجزِيَ عن أحَدٍ بَعدَك))
، فالأصلُ اشتِراكُ الجَماعةِ في الحُكمِ، حتَّى يَثبُتَ للتَّخصيصِ فائِدةٌ في مَوضِعِه الذي ورَدَ فيه
.
3- رُجوعُ الصَّحابةِ في أحكامِ الحَوادِثِ؛ حَيثُ إنَّهم بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا يَرجِعونَ إلى ما قَضى به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أشخاصٍ مِنهم، مِثلُ رُجوعِ ابنِ مَسعودٍ في المُفوَّضةِ إلى قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنتِ واشِقٍ
. ورُجوعِهم في وَضعِ الجِزيةِ على مَجوسِ هَجَرَ
. ولَم يَدَّعِ أحَدٌ تَخصيصَ الواحِدِ مِنَ الجَماعةِ التي خَرَجَ عليها الخِطابُ؛ فدَلَّ على تَساوي الجَميعِ في ذلك
.
وقيلَ: إذا تَوجَّهَ الأمرُ إلى واحِدٍ مِنَ الصَّحابةِ لَم يَدخُلْ غَيرُه فيه بإطلاقِه، أي: أنَّ الحُكمَ يَختَصُّ بمَن توجَّه إليه الأمرُ، ولا يَدخُلُ غَيرُه فيه إلَّا بدَليلٍ يوجِبُ التَّعميمَ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ
، وبَعضِ المالِكيَّةِ كالباقِلَّانيِّ
، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ
كالشِّيرازيِّ
، وبَعضِ الحَنابِلةِ، كأبي الحَسَنِ التَّميميِّ
، وأبي الخَطَّابِ الكَلْوَذانيِّ
.
أثَرُ الخِلافِ في المَسألةِ
:يَظهَرُ أثَرُ الخِلافِ هنا في أنَّ أصحابَ القَولِ الرَّاجِحِ قَصَدوا أنَّ دُخولَ بَقيَّةِ الصَّحابةِ في الخِطابِ الموجَّهِ إلى فردٍ مِنهم ثَبَتَ عن طَريقِ اللَّفظِ والنَّصِّ، ولا يَخرُجُ أحَدٌ مِنهم عن خِطابِ الآخَرِ إلَّا بدَليلٍ خارِجيٍّ.
أمَّا أصحابُ القَولِ الثَّاني فإنَّهم قَصَدوا أنَّ كُلَّ خِطابٍ مُختَصٌّ بمَن وُجِّهَ إليه، ولا يَدخُلُ غَيرُه إلَّا بدَليلٍ، كَقياسِ غَيرِ المُخاطَبِ على المُخاطَبِ.
فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: يَكونُ دُخولُ غَيرِ المُخاطَبِ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ.
وعلى القَولِ الثَّاني: يَكونُ دُخولُ غَيرِ المُخاطَبِ عن طَريقِ القياسِ.
والفرقُ بَينَ ما ثَبَتَ عن طَريقِ النَّصِّ، وما ثَبَتَ عن طَريقِ القياسِ، مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ أقوى مِنَ الحُكمِ الثَّابِتِ عن طَريقِ القياسِ.
الثَّاني: أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ يَنسَخُ ويُنسَخُ به، أمَّا الحُكمُ الثَّابِتُ عن طَريقِ القياسِ فلا يَنسَخُ ولا يُنسَخُ به؛ لأنَّه ثَبَتَ عن طَريقِ الاجتِهادِ، والنَّسخُ خاصٌّ بالنُّصوصِ.