المَطلَبُ الخامِسُ: مُقتَضى الأمرِ الوارِدِ بَعدَ النَّهيِ
عَبَّرَ الأُصوليُّونَ عن هذه المَسألةِ بوُرودِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ
.
قال العبَّاديُّ: (ظاهِرُ اقتِصارِهم على الحَظرِ عَدَمُ جَرَيانِ هذا الخِلافِ في وُرودِه بَعدَ نَهيِ التَّنزيهِ، بَل يُتَّفَقُ حينَئِذٍ على أنَّه للوُجوبِ على أصلِهـ)
.
وهذه المَسألةُ مُتَفرِّعةٌ على أنَّ صيغةَ (افعَلْ) المُجَرَّدةَ عنِ القَرائِنِ تَقتَضي الوُجوبَ، فاختَلَف القائِلونَ بذلك فيما إذا ورَدَت بَعدَ النَّهيِ: فهَل هيَ باقيةٌ على حَقيقَتِها في الدَّلالةِ على مَعنى الأمرِ، أم وُرودُها بَعدَ الحَظرِ قَرينةٌ تَصرِفُ الصِّيغةَ عن مَعنى الأمرِ إلى مَعنى الإباحةِ، أم ماذا
؟
والرَّاجِحُ: أنَّ وُرودَ صيغةِ الأمرِ بَعدَ النَّهيِ يُفيدُ رَفعَ الحَظرِ فقَط، وإعادةَ حالِ الفِعلِ إلى الحُكمِ الذي كان عليه قَبلَ الحَظرِ، فإن كان مُباحًا كان مُباحًا، وإن كان واجِبًا أو مُستَحَبًّا كان كذلك
.
وهو المَعروفُ عنِ السَّلَفِ والأئِمَّةِ
، وهو قَولُ بَعضِ الحَنابِلةِ
، ومِمَّنِ اختارَه المَجدُ ابنُ تيميَّةَ ونَسَبه للمُزَنيِّ
، وصَحَّحه ابنُ كَثيرٍ
، واختارَه بَعضُ الحَنَفيَّةِ، كالكَمالِ بنِ الهُمامِ
، ووصَفه أمير بادشاه بأنَّه أقرَبُ إلى التَّحقيقِ
.
الأدِلَّةُ:1- أنَّ الاستِقراءَ دَلَّ على أنَّ الأمرَ بَعدَ الحَظرِ يَعودُ للحُكمِ الذي كان عليه المَأمورُ به قَبلَ النَّهيِ، فهذا هو واقِعُ دَلالةِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ في النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ
.
فإن كان على الإباحةِ فلَها، مِثلُ:
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة: 2] ؛ لأنَّ الاصطيادَ قَبلَ الإحرامِ كان مُباحًا فاستَمَرَّ كذلك، وإن كان على الوُجوبِ فله، مِثلُ:
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 5] ؛ لأنَّ قَتلَ المُشرِكينَ قَبلَ تَحريمِه في هذه المُدَّةِ كان واجِبًا فاستَمَرَّ كذلك
.
قال الشِّنقيطيُّ: (التَّحقيقُ الذي دَلَّ عليه الاستِقراءُ التَّامُّ في القُرآنِ أنَّ الأمرَ بالشَّيءِ بَعدَ تَحريمِه يَدُلُّ على رُجوعِه إلى ما كان عليه قَبلَ التَّحريمِ مِن إباحةٍ أو وُجوبٍ؛ فالصَّيدُ قَبلَ الإحرامِ كان جائِزًا، فمُنِع للإحرامِ، ثُمَّ أُمِرَ به بَعدَ الإحلالِ، بقَولِه:
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا فيَرجِعُ لِما كان عليه قَبلَ التَّحريمِ، وهو الجَوازُ، وقَتلُ المُشرِكينَ كان واجِبًا قَبلَ دُخولِ الأشهُرِ الحُرُمِ، فمُنِعَ مِن أجلِها، ثُمَّ أُمِرَ به بَعدَ انسِلاخِها في قَولِه:
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الآية، فيَرجِعُ لِما كان عليه قَبلَ التَّحريمِ، وهو الوُجوبُ، وهذا هو الحَقُّ في هذه المَسألةِ الأُصوليَّةِ)
.
2- أنَّ الحَظرَ قَرينةٌ دالَّةٌ على رَفعِ الحُكمِ الذي قَبلَه، فإذا زالَ الحَظرُ انتَفى المانِعُ، فبَقيَ ما كان على ما كان، حتَّى كَأنَّ الآمِرَ قال: قد كُنتُ مَنَعتُ مِن كَذا، وقد رَفعتُ ذلك، واستَمَرَّ ما كان مَشروعًا قَبلَ المَنعِ على الوَجهِ الذي كان مَشروعًا قَبلَه
.
وقيلَ: الأمرُ بَعدَ الحَظرِ يُفيدُ الوُجوبَ.
وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ
، وبَعضِ المالِكيَّةِ
، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ
، وبه قال ابنُ حَزمٍ مِنَ الظَّاهريَّةِ
.
وقيلَ: إنَّه يُفيدُ الإباحةَ. وهو مَنقولٌ عن: الشَّافِعيِّ
، وأحمَدَ
، وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ
، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ
، وبَعضِ الحَنابِلةِ
، واختارَه الجَصَّاصُ مِنَ الحَنَفيَّةِ
، ونَقلَه الباقِلَّانيُّ وابنُ بَرهانَ عن جُمهورِ الفُقَهاءِ
، ونَقَلَه ابنُ التِّلِمْسانيِّ عن كَثيرٍ مِنَ الأُصوليِّينَ
.
وقيلَ: إنَّه يُفيدُ الاستِحبابَ. وهو قَولُ القاضي حُسَينٍ مِنَ الشَّافِعيَّةِ
.
وقيلَ غَيرُ ذلك
.
مِثالٌ تَطبيقيٌّ للمَسألةِ:تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ في عَدَدٍ مِنَ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- النَّظَرُ إلى المَخطوبةِ بَعدَ العَزمِ على نِكاحِها:ورَدَ الأمرُ بالنَّظَرِ إلى المَخطوبةِ في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((انظُرْ إليها؛ فإنَّه أحرى أن يُؤدَمَ بَينَكُما))
.
وقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ النَّظَرِ إلى المَخطوبةِ بَعدَ العَزمِ على نِكاحِها:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّه مُباحٌ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ
، والمالِكيَّةِ
، والحَنابِلةِ
، ووَجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ
.
القَولُ الثَّاني: أنَّه مُستَحَبٌّ. وهو قَولُ الشَّافِعيَّةِ
.
وقالوا: لا يُحمَلُ على الوُجوبِ؛ للقَرينةِ التي صَرَفته عنِ الوُجوبِ إلى النَّدبِ، وهيَ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فإنَّه أحرى أن يُؤدَمَ بَينَكُما))
.
والأمرُ بالنَّظَرِ إلى المَخطوبةِ في الحَديثِ قد ورَدَ بَعدَ حَظرٍ، وهو تَحريمُ النَّظَرِ إلى الأجنَبيَّةِ.
فمَن قال بالِاستِحبابِ فقد حَمَلَ الأمرَ الوارِدَ بَعدَ الحَظرِ على الاستِحبابِ، وكذلك مَن قال بالإباحةِ حَمَلَه على الإباحةِ
.
2- حُكمُ زيارةِ القُبورِ:ورَدَ الأمرُ بزيارةِ القُبورِ بَعدَ الحَظرِ، كما في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كُنتُ نَهَيتُكُم عن زيارةِ القُبورِ، فزوروها))
.
وقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في زيارةِ القُبورِ على أقوالٍ، منها:
أنَّها مُستَحَبَّةٌ. وهو قَولُ الجُمهورِ
.
وقيلَ: إنَّها مُباحةٌ. وهو قَولُ بَعضِ الحَنابِلةِ
.
فمَن قال بالِاستِحبابِ قال: إنَّ النَّدبَ الذي دَلَّ عليه الأمرُ بَعدَ الحَظرِ هو حُكمُ الزِّيارةِ نَفسُه قَبلَ وُرودِ النَّهيِ؛ فإنَّها قَبلَ النَّهيِ كانت كذلك، فعادَت إلى ما كانت عليه بقَرينةِ وُرودِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ.
وعَلَّلَ بَعضُهم ذلك بقَولِه:
((فإنَّها تُذَكِّرُكُمُ الآخِرةَ))
؛ فإنَّها قَرينةٌ على الاستِحبابِ
.
ومَن قال بالإباحةِ حَمَلَه على أنَّ الأمرَ بَعدَ الحَظرِ يَقتَضي الإباحةَ
.
قال ابنُ اللَّحَّامِ: (أخَذ غَيرُ واحِدٍ مِن أصحابِنا مِن كَلامِ الخِرَقيِّ أنَّها مُباحةٌ؛ لأنَّ الأمرَ بزيارَتِها أمرٌ بَعدَ حَظرٍ، فيَقتَضي الإباحةَ بناءً على القاعِدةِ. ولَكِنَّ المَذهَبَ المَنصوصَ عن أحمَدَ: أنَّها مُستَحَبَّةٌ. وذَكَرَه بَعضُهم إجماعًا؛ لأنَّه وإن كان بَعدَ حَظرٍ، لَكِنَّه عَلَّله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتَذَكُّرِ المَوتِ والآخِرةِ، وذلك أمرٌ مَطلوبٌ شَرعًا)
.