الموسوعة التاريخية


العام الهجري : 647 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1249
تفاصيل الحدث:

إن الناصر داودَ صاحب الكرك لما ضاقت به الأمورُ استخلف ابنَه الملكَ المعظم شرفَ الدين عيسى، وأخذ معه جواهِرَه، وسار في البر إلى حَلَب مستجيرًا بالملك الناصرِ يوسف بن الملك العزيز فأنزله وأكرَمَه وسيَّرَ النَّاصِرَ بجواهره إلى الخليفةِ المستعصم بالله؛ لتكون عنده وديعة، فقبض الخليفةُ ذلك، وسير إليه الخطَّ بقبضه وأراد الناصرُ بذلك أن يكون الجوهَرُ في مأمن، فإذا احتاج إليه طلَبَه، وكانت قيمتُه ما ينيِّف على مائة ألف دينار، فحنق ولدا الناصرِ وهما الملك الظاهر شادي والملك الأمجد حسن على أبيهما، لكونِه قَدَّمَ عليهما المعظَّم، وقبضا على المعظَّم، واستوليا على الكرك وأقام الملكُ الظاهر شادي-  وهو أسنُّ إخوتِه- بالكرك وسار الملك الأمجدُ حَسَن إلى الملك الصالح نجم الدين، فوصل إلى العسكرِ بالمنصورة، يوم السبت لتسعٍ مَضَين من جمادى الآخرة، وبَشَّره بأنه هو وأخوه الظاهر أخذا الكرك له، فأكرمه السلطانُ، وأعطاه مالًا كثيرًا، وسيَّرَ الطواشي بدر الدين الصوابي إلى الكرك نائبًا بها وبالشوبك، فتسَلَّمَها بدر الدين، وسيَّرَ أولاد الناصر داود جميعهم، وأخويه الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، ونساءهم وعيالاتهم كُلَّها، إلى المعسكر بالمنصورة، فأقطعهم السلطانُ إقطاعًا جليلًا، ورتَّب لهم الرواتَب، وأنزل أولادَ الناصر في الجانب الغربيِّ قُبالة المنصورة، وكان استيلاءُ نائب السلطان على الكرك يوم الاثنين، لاثنتي عشرة بَقِيَت من جمادى الآخرة، وسُرَّ السلطان بأخذ الكرك سرورًا عظيمًا، وأمَرَ فزينت القاهرة ومصر، وضُرِبَت البشائر بالقلعتين، وجهَّزَ السلطان إلى الكرك ألف ألف دينار مصرية، وجواهر وذخائر وأسلحة، وشيئًا كثيرًا مما يعِزُّ عليه.

العام الهجري : 647 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1249
تفاصيل الحدث:

هو السُّلطانُ الملك الصالحُ نجمُ الدين أيوب بن السلطان الملك الكامِل ناصِرِ الدين محمد بن السلطان الملك العادل أبي بكر محمد بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي. وُلِدَ سنة 603 بالقاهرة، فلمَّا قَدِمَ أبوه دمشقَ في آخر سنة خمس وعشرين استنابه على ديار مصر، فلمَّا رجع انتقَدَ عليه أبوه أحوالًا، ومال عنه إلى ولَدِه الملك العادل الثاني. ولما استولى الكامِلُ على حران، وعلى حِصنِ كيفا وآمد وسنجار سلطَنَه على هذه البلادِ، أرسل الملك الصالح أيوب إليها, فلما توفِّيَ الكامل تملَّك بعده ديارَ مصر ابنُه العادل الثاني أبو بكر، فطَمِعَ الملك الصالح وقَوِيَت نفسُه، وكاتَبَ الأمراء، واستخدم الخوارزميَّة, واستقَرَّت له الأحوال، وسَلَّم له أمراء بني أيوب، وتفرَّغ لجهاد الصليبيين حتى استردَّ بيت المقدسِ منهم مرةً ثانيةً في أيَّامه, وأستكثر من استجلاب المماليك لمساعدتِه في حروبه ضِدَّ الصليبيين. كان السلطان أيوب في دمشق ثمَّ سار عنها في المحرَّم إلى مصرَ بعد أن سَمِعَ بوصول الفرنجِ إلى سواحل مصر من دمياط، وكان قد أصابه المرضُ ولم يقدر السلطاُن على الحركة لمرضه، ونودي في مصر من كان له على السلطانِ أو عنده له شيءٌ، فليحضر ليأخُذَ حَقَّه، فطلع الناسُ وأخذوا ما كان لهم، ثم لما كان ليلة الاثنين نصف شعبان مات السلطان الملك الصالح بالمنصورة، وهو في مقابلةِ الفرنج، عن أربع وأربعين سنة، بعدما عهد لولده الملك المعظَّم توران شاه، وكانت مُدَّة ملكه بمصر عشر سنين إلا خمسين يومًا، فغسَّلَه أحد الحكماء الذين تولوا علاجه، لكي يخفى موتَه، وحُمِلَ في تابوت إلى قلعة الروضة، وأخفى موتَه، فلم يشتهر إلا في شوَّال بعد وصول ابنه المعظم توران شاه مصر، ثم نُقِلَ بعد ذلك بمدة إلى تربته بجوارِ المدارس الصالحية بالقاهرة، وقد كانت كَتَمَت جاريته أم خليل المدعوَّة شجرةَ الدرِّ مَوتَه، وأظهرت أنَّه مريضٌ لا يُوصَلُ إليه، وبَقِيَت تُعلِمُ عنه بعلامتِه سواء، وأعلمت إلى أعيان الأمراء فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا فأقدموه إليهم سريعًا، وذلك بإشارةِ أكابر الأمراء منهم فخر الدين بن الشيخ الشيوخ، فلما قَدِمَ عليهم مَلَّكوه عليهم وبايعوه أجمعينَ.

العام الهجري : 647 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

بعد وفاةِ الملك الصالحِ نجمِ الدين أيوب قَدِمَ ابنُه المعظَّم توران شاه, وكان في حصنِ كيفا، فسار من حصنِ كيفا إلى دمشق، لإحدى عشرةَ ليلةً مضت من شهر رمضان، فنزل عانةً في خمسين فارسًا من أصحابه، يوم الخميس النِّصفَ من شهر رمضان وخرج منها يوم الأحدِ يريد دمشق على طريقِ السماوة في البرية فنَزَل القصيرَ في دهليز ضربه له الأميرُ جمال الدين موسى بن يغمور نائب دمشق يوم الجمعة لليلتين بَقِيَتا من شهر رمضان، ودخل المعظَّم توران شاه من الغد - وهو يوم السبتِ آخره - إلى دمشقَ، ونزل بقلعتِها، فكان يومًا مشهودًا وأفرَجَ عَمَّن كان بدمشق في حَبسِ أبيه، وأتته الرسلُ مِن حَماة وحَلَب تهنئه بالقدوم، ولأربع مضينَ من شوال سقطت البطائقُ إلى العسكر والقاهرة، بوصول الملك المعظَّم إلى دمشق وسلطته بها فضُرِبَت البشائر بالمعسكر وبالقاهرة، وسار السلطانُ توران شاه من دمشق يوم الأربعاء السابع عشر يريدُ مِصرَ، وقَدِمَ معه القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، وكان مقيمًا بدمشقَ عند الأمير جمال الدين، وقَدِمَ معه أيضًا هبة الله بن أبي الزهر بن حشيش الكاتب النصرانيُّ، وقد وعده السلطان بوزارة مصر، فأسلم وتلقَّب بالقاضي مُعين الدين، وعندما تواترت الأخبارُ في القاهرة بقدوم السلطان، خرج قاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فلَقِيَه بغزة وقَدِمَ معه وخرج الأميرُ حسام الدين بن أبي علي نائب السلطان إلى الصالحية، فلقيه بها يوم السبت لأربع عشرة ليلة بَقِيَت من ذي القعدة، ونزل السلطان المعظم توران شاه في قصر أبيه، ومنه يومئذٍ أعلن بموتِ الملك الصالحِ نجم الدين أيوب ولم يكنْ أحدٌ قبل هذا اليوم ينطق بموتِه، بل كانت الأمور على حالها، فتسَلَّم السلطان المعظم مملكةَ مصر، ثم إنه رحل من الصالحية ونزل تلبانة، ثم نزل بعدها منزلة ثالثةً، وسار منها إلى المنصورة، وقد تلقَّاه الأمراء المماليك، فنزل في قصرِ أبيه وجَدِّه يوم الخميس لتسعٍ بَقِينَ من ذي القعدة، فأوَّل ما بدأ أن أخذ مماليكَ الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ الصغار بدون القيمة، ولم يعطِ ورثته شيئًا، وكان ذلك بنحوِ الخمسة عشر ألف دينار، وأخذ يسُبُّ فخر الدين ويقول: أطلق السكَّر والكتان، وأنفِقِ المال وأطلق المحابيسَ إيش ترك لي.

العام الهجري : 647 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

هو الصاحِبُ الكبير، ملك الأمراءِ، فَخرُ الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بن حمويه. مولده: بدمشق، سنة582. كان فاضلًا صدرًا مُعظمًّا عاقِلًا شُجاعًا جَوادًا دَيِّنًا مَهيبًا وقورًا خَليقًا للإمارةِ والملك، كانت الأمراءُ تعَظِّمُه جدًّا، ولو دعاهم إلى مبايعتِه بعد الصالحِ لما اختُلِفَ عليه اثنان، ولكنه كان لا يرى ذلك حمايةً لجانب بني أيوب، غَضِبَ عليه السلطان نجم الدين سنة أربعين وسجنَه ثلاث سنين، وقاسى شدائدَ، ثم أنعم عليه، وولَّاه نيابةَ المملكة، ولما توفي السلطان ندب الأمراء والقادة فخرَ الدين إلى السلطنة، فامتنع، ولو أجاب لتمَّ له. نهض بأعباء الأمر بعدَ وفاة الملك الصالح وأحسَنَ، وأنفق في الجند مائتي ألف دينار، وأبطَلَ بعضَ المكوس، وركب بالشاويشية، وبعث فارس الدين أقطاي  إلى حصنِ كيفا لإحضارِ ولد الملك الصالح, المعظَّم توران شاه، فأقدمه، ولقد هم توران شاه بإمساكِه لَمَّا بلغه مِن تمكُّنِه فصادر مماليكَه وبعضَ أملاكه. خرج فخر الدين لقتال الفرنجِ وزَحفهم على الجيش، فتقهقر الجيشُ وانهزموا، فقتَلَتْه الداوية من الفرنج شهيدًا في ذي القعدة، ثم نَهَبت أمواله وحواصِلَه وخُيوله، وخَرَّبت داره ولم يتركوا شيئًا من الأفعال الشنيعة البَشِعة إلَّا صنعوه به، مع أن الذين تعاطوا ذلك من الأمراء كانوا معظِّمينَ له غايةَ التعظيم. وحُمِل فدفن بالقاهرة.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

كان لسقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين سنة642 هـ (1244م) صدى كبير في أوروبا فأخذت أوروبا تجَهِّزُ لحملة صليبيةٍ جديدةٍ كبيرةٍ هي الحملةُ الصليبية السابعة للاستيلاءِ على مصر, حيثُ إنهم أدركوا بعد هزيمةِ حَملتِهم الصليبية الخامسةِ على مصر، ثم هزيمتهم في معركة الحربيَّة عند غزة، وضياع بيت المقدس منهم، أنَّ مِصرَ هي التي تمثل مركزَ قُوَّة المسلمين وقلعة التصدِّي لطموحاتِهم في الاستيلاءِ على بيتِ المقدسِ والشَّرق, وكان لويس التاسع ملك فرنسا الذي عُرِفَ لاحقًا بالقديس لويس، من أشد المتحمِّسين لقيام تلك الحملة، فراح يروِّجُ لها في أنحاء أوروبا. خرج لويس التاسع قاصدًا الديار المصرية في جموعٍ عظيمة فسار عن بلاده بأموالٍ جزيلة وأُهبة عظيمة، وأرسى بعكَّا وانبثَّ أصحابُه في جميع بلاد الساحل. فلمَّا استراحوا جاؤوه حاشدينَ حافلين وساروا في البحرِ إلى دمياط ومَلَكوها بغيرِ تَعَب ولا قتالٍ؛ لأنَّ أهلَها لَمَّا بلَغَهم ما الفرنجُ عليه من القوة والكثرة والعُدَّة الكاملة هالهم أمرُهم فرحلوا عنها مخفِّين. فوصل إليها الفرنجُ ولَقُوها خالية عن المقاتلين مليئةً بالأرزاق والسِّلاح، فدخلوها وغَنِموا ما فيها من الأموال. وكان الملكُ الصالح أيوب بن الملك الكامل صاحبُ مصر يومئذ بالشَّامِ يحاصر مدينة حمص. فلمَّا سَمِعَ بمقدم الفرنج رحل عن حمصَ وسار مسرعًا إلى الديار المصرية ومرض في الطريقِ وعند وصوله إلى المنصورة وافاه مقدَّمو دمياط الذين أخلوها منهزمين، فلما قيل له ما صنعوا لأنَّهم فرُّوا عنها من غير أن يباشروا حربًا وقتالًا، عظم ذلك عليه فأمر بصَلبِهم وكانوا أربعة وخمسين أميرًا فصُلِبوا كما هم بثيابِهم ومناطِقِهم وخفافِهم. ثم مات من الغدِ في الخامس عشر من شعبان. وتولَّى تدبير المملكة الأمير عزُّ الدين المعروف بالتركمانيِّ، وهو أكبر المماليك الترك. وكان مرجعه في جميع ذلك ممَّا يعتمده من الأمور إلى حظيَّة الملك الصالح أيوب المسمَّاة شجرة الدرِ،ّ وكانت تركية داهيةَ الدَّهرِ لا نظير لها في النساءِ حُسنًا، وفي الرجال حزمًا. فاتفقا على تمليك الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح. وكان يومئذٍ بحِصن كيفا من ديارِ بكر, فسار إلى الدِّيار المصريَّة وبايعوه وحَلَفوا له وسَلَّموا إليه مُلكَ أبيه. وفي مطلع سنة 648 سيَّرَ لويس التاسع ألفي فارس نحو المنصورة ليجسَّ بهم ما عليه المصريون من القوَّة. فلَقِيَهم طرفٌ مِن عسكر المسلمينَ فاقتتلوا قتالًا ضعيفًا فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنجُ المنصورةَ ولم ينالوا منها نيلًا طائلًا؛ لأنهم حَصلوا في مضايق أزقَّتِها وكان العامَّةُ يقاتلونهم بالحِجارة والآجُرِّ والتراب وخيولهم الضَّخمة لم تتمكَّن من الجولان بين الدُّروبِ، وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن شيخ الشيوخ أحد الأمراء المصريين شيخًا كبيرًا، أحاط به الفرنجُ وهو في الحمام يصبغُ لحيَتَه فقتلوه هناك. وعادوا إلى لويس التاسع وأعلموه بما تمَّ لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمَعُ من معه من البطارقة ظانِّينَ أنه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة. فعبَّى جيوشه وسار بهم طالبًا احتلال أرض مصر. فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليجَ مِن النيل المسمى أشموم طناح وهو بين البرَّين: برِّ دمياط وبرِّ المنصورة. في ليلة الأربعاء الثالث من محرم رحل الفرنج بأسرِهم من منزلتهم وانحدرت مراكِبُهم في البحر قبالةَ المسلمين، فركب المسلمونَ أقفيَتَهم، بعد أن عَدَّوا برَّهم واتبعوهم، فطلع صباحُ نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون، وبَلَوا فيهم سيوفَهم، واستولوا عليهم قتلًا وأسرًا، وكان معظمُ الحرب في فارسكور، فبلغت عدة القتلى عشرةَ آلاف في قَولِ المقِلِّ، وثلاثين ألفًا في قولِ المكثر، وأُسِرَ من خيَّالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسُوقتِهم، ما يناهِزُ مائة ألف إنسان، وغَنِمَ المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرةً، واستُشهِدَ من المسلمين نحو مائة رجل، وأبلت الطائفةُ البحرية لاسيما بيبرس البندقداري في هذه النوبة بلاءً حسنًا، وبان لهم أثرٌ جميل، والتجأ الملك الفرنسيُّ وعِدَّة من أكابر قومه إلى تل المنية، وطلبوا الأمانَ فأمَّنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزَلوا على أمانه، وأُخِذوا إلى المنصورة، فقُيِّد الملك الفرنسي بقيدٍ مِن حديدٍ واعتُقِلَ في دار القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتبِ الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورةِ ووكَلَ بحفظه الطواشي صبيح المعظمي، واعتُقِلَ معه أخوه، وأجرى عليه راتبًا في كل يوم، وتقَدَّم أمر الملك المعظم توران شاه لسيف الدين يوسف بن الطودي أحد من وصل معه من بلاد الشرق بقَتلِ الأسرى من الفرنج، وكان سيفُ الدين يُخرِجُ كُلَّ ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويَضرِبُ أعناقَهم ويرميهم في البحر، حتى فَنُوا بأجمعهم، ورحل السلطانُ من المنصورة، ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليزَ السلطاني، وعَمِلَ فيه برجًا من خَشَبٍ.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

هو السُّلطانُ الملك المعظم، غياث الدين توران شاه بن السلطان الملك الصالح أيوب بنِ الكامل بن العادل. وُلِدَ بمصر، وعَمِل نيابة أبيه، ثم تملك بحِصن كيفا وآمد، وكان أبوه لا يُعجِبُه هَوَجُه ولا طَيشُه، وكان السلطانُ يقول: توران شاه ما يَصلُحُ للمُلك, ولما مات أبوه سار لإحضارِه لمصر الأميرُ فارس أقطاي، فاتفَقَت كسرة الفرنج عند وصولِه مصر، فتيمَّنَ الناس به، فبدا منه حركاتٌ مُنَفِّرة، ووجدوه خفيفَ العَقلِ، سَيِّئَ التدبير، وكان الأمراء قد تطَلَّعوا إلى أن يُنفِقَ فيهم كما فعل بدمشق، فما أعطاهم شيئًا، ومتى سَكِرَ ضرب الشموعَ بالسَّيفِ، ويقول: هكذا أفعَلُ بمماليك أبي, ويتهَدَّدُ الأمراءَ بالقتل، فتنَكَّروا له، واحتجب عن أمورِ الناس، وانهمك في الفسادِ بالغِلمان، وما كان أبوه كذلك, وقَدَّم الأرذالَ، ووعَدَ فارِسَ الدين أقطاي بالإمرة، فما أمَّرَه، فنَفِرَت قلوبُ المماليك البحرية منه، واتفقوا على قتله، وما هو إلا أن مَدَّ السماط بعد نزوله بفارسكور، في يوم الاثنينِ سادس عشر المحرم، وجلس السلطان على عادته، فتقَدَّم إليه واحدٌ مِن البحرية وهو بيبرس البندقداري، وضربه بالسَّيفِ فتلقاه المعظم بيَدِه فبانت أصابعُه، والتجأ إلى البرج الخَشَب الذي نُصِبَ له بفارسكور وهو يَصيحُ مَن جرحني، قالوا: الحشيشة- يعني الإسماعيلية- فقال: لا والله إلا البحرية! واللهِ لا أبقيتُ منهم بقيَّة، واستدعى المزين ليداويَ يَدَه، فقال البحريَّة بعضهم لبعض: تَمِّموه وإلا أبادكم، فدخلوا عليه بالسيوفِ، ففَرَّ المعظَّم إلى أعلى البرج وأغلق بابه، والدَّمُ يسيل من يده، فأضرموا النَّارَ في البرج، ورَمَوه بالنشاب فألقى نَفسَه من البرج، وتعلق بأذيالِ فارس الدين أقطاي، واستجار به فلم يُجِرْه، وفَرَّ المعظم هاربًا إلى البحر، وهو يقول: ما أريد مُلكًا، دعوني أرجِعُ إلى الحصن يا مسلمين، ما فيكم من يجيرني؟ هذا وجميعُ العسكر واقفون، فلم يجِبْه أحدٌ والنشَّاب يأخذه من كل ناحية، وسَبَحوا خلفه في الماء، وقطَّعوه بالسيوفِ قِطَعًا، حتى مات جريحًا حريقًا غريقًا، وفَرَّ أصحابه واختفوا، وتُرِكَ توران شاه على جانب البحرِ ثلاثة أيامٍ منتفخًا، لا يقدِرُ أحد أن يتجاسَرَ على دفنه، إلى أن شَفَع فيه رسولُ الخليفة، فحُمِلَ ودُفِنَ، وكانت مُدَّة ملكه أحدًا وسبعين يومًا، وكان المباشرُ لقتله أربعةٌ من مماليك أبيه، وكان اغتيالُه هو نهايةَ الدولة الأيوبيَّة في مصر.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

هي المَلِكةُ عِصمةُ الدين أمُّ خليل شَجَرةُ الدر كانت تركيةَ الجنس، وقيل بل أرمنيَّة، اشتراها الملِكُ الصالح نجم الدين أيوب، وحَظِيَت عنده بحيث كان لا يفارِقُها سفرًا ولا حضرًا، هي أوَّلُ مَن ملك مصر من ملوكِ الترك المماليكِ، وذلك أنَّه لما قُتِلَ الملك المعظم غياث الدين توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، اجتمع الأمراءُ المماليك البحرية، وأعيانُ الدولة وأهل المشورة، بالدهليز السلطاني، واتفقوا على إقامةِ شَجرةِ الدر أمِّ خليل زوجةِ الملك الصالح نجم الدين أيوب، في مملكةِ مِصرَ، وأن تكونَ العلاماتُ السلطانيَّة على التواقيعِ تَبرُز مِن قِبَلِها، وأن يكون مُقَدَّم العسكر الأميرَ عِزَّ الدين أيبك التركماني الصالحيَّ أحدَ البحرية، وحَلَفوا على ذلك في عاشر صفر، وخرج عزُّ الدين التركماني من المعسكَرِ إلى قلعة الجبل، وأنهى إلى شَجرةِ الدر ما جرى من الاتفاقِ، فأعجَبَها، وصارت الأمورُ كُلُّها معقودةً بها، والتواقيعُ تبرز من قلعة الجبل، وعلامتُها عليها والدةُ خليل، وخُطِبَ لها على منابِرِ مصر والقاهرة، ونُقِشَ اسمها على السكة، ومثالُه المستعصمة الصالحيَّة، ملكةُ المسلمين، والِدةُ الملك المنصورِ خليلٍ أمير المؤمنين، وكان الخطباءُ يقولون في الدعاء: اللهمَّ أدِمْ سلطان السِّترِ الرفيع، والحِجابِ المنيع، مَلِكة المسلمين، والِدَة الملك الخليل، وبَعضُهم كان يقول بعد الدعاء للخليفة: واحفَظِ اللهم الجُبَّةَ الصالحيَّة، ملكةَ المسلمين، عِصمةَ الدنيا والدين، أمَّ خليل المستعصميَّة صاحبة الملك الصالحِ.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

لما حلف الأمراء والأجناد واستقرت القاعدة على تملُّك شجرة الدر، نَدَب الأميرُ حسام الدين محمد بن أبي علي للكلامِ مع الملك لويس التاسع في تسليمِ دمياط، فجرى بينه وبين الملك مفاوضاتٌ ومحاورات ومراجعات، آلت إلى أن وقع الاتفاقُ على تسليمها من الفرنجِ، وأن يخلى عنه ليذهَبَ إلى بلاده، بعدما يؤدِّي نصفَ ما عليه من المالِ المقَرَّر، فبعث الملك الفرنسي إلى من بها من الفرنجِ يأمُرُهم بتسليمِها، فأبوا وعاوَدَهم مرارًا، إلى أن دخل العَلَمُ الإسلاميُّ إليها، في يوم الجمعة لثلاث مضينَ مِن صفر، ورفع على السُّورِ وأُعلِنَ بكلمة الإسلام وشهادةِ الحَقِّ، فكانت مدةُ استيلاء الفرنج عليها أحد عشر شَهرًا وتسعة أيام، وأُفرِجَ عن الملك لويس التاسع، بعدما فدى نفسَه بأربعمائة ألف دينار، وأفرج عن أخيه وزوجته ومن بقي من أصحابِه، وسائر الأسرى الذين بمصر والقاهرة، ممَّن أُسِرَ في هذه الواقعة، ومن أيام العادل والكامِلِ والصالح وكانت عِدَّتُهم اثني عشر ألف أسير ومائة أسير وعشر أسارى، وساروا إلى البر الغربي، ثم ركبوا البحرَ في يوم السبت تاليه، وأقلَعوا إلى جهة عكَّا.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

كتب الأمراءُ القيمريَّة مِن دمشق إلى المَلِك النَّاصِر صلاح الدين يوسُف بن العزيز محمَّد بن الظاهر غازي بن السُّلطان صلاح الدين يوسُف بن أيوب صاحِب حلب، يحذرونَه بامتناعِهم من الحَلِف لشَجرةِ الدُّرِّ، ويحثُّونَه على المسيرِ إليهم حتى يملِكَ دمشق، فخرج من حَلَب في عساكِرِه مُستهَلَّ شَهرَ ربيع الآخر، ووصل إلى دمشقَ يوم السبت ثامِنَه، ونازلها إلى أن كان يومُ الاثنين عاشِرَه زحف عليها، ففتح الأمراءُ القيمرية له أبواب البلد وكان القائمُ بذلك من القيمريَّة الأمير ناصر الدين أبو المعالي حسين بن عزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي، فدخلها الناصرُ صلاح الدين هو وأصحابه بغير قتالٍ، وخلع على الأمراءِ القيمرية، وعلى الأميرِ جمال الدين بن يغمور، وقبَضَ على عِدَّة من الأمراء المماليك الصالحيَّة وسجَنَهم، ومَلَك الناصر صلاح الدين قلعةَ دمشق، وكان بها مجاهدُ الدين إبراهيم أخو زين الدين أمير جندار، فسَلَّمها إلى الناصر، وبها من المالِ مائة ألف دينار وأربعمائة ألف درهم سوى الأثاث، ففرق الناصِرُ جميعَ ذلك على الملوك والأمراء، وتسَلَّموا ما حولها كبعلبك وبُصرى والصلت وصرخد، وامتنعت عليهم الكرك والشوبك بالملك المغيثِ عمر بن العادل بن الكامل، كان قد تغلب عليهما في هذه الفتنة حين قُتِلَ المعظم توران شاه، فطلبه المصريون ليُمَلِّكوه عليهم فخاف مما حَلَّ بابنَي عَمِّه، فلم يذهب إليهم ولما استقَرَّت يد الحلبيين على دمشق وما حولها جلس الناصِرُ في القلعة وطَيَّب قلوب الناس، ثم ركبوا إلى غزة ليتسَلَّموا الديار المصرية، فبرز إليهم الجيشُ المصري فاقتتلوا معهم أشَدَّ القتال، فكُسر المصريونَ أوَّلًا بحيث إنه خُطِبَ للناصر في ذلك بها، ثم كانت الدائرة على الشاميِّين فانهزموا وأسروا من أعيانهم خلقًا كثيرًا، وعَدِمَ من الجيش الصالح إسماعيل.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

عِزُّ الدين أيبك الجاشنكير التركماني الصالحي تركي الأصلِ والجنس، انتقل إلى مِلكِ السلطان المَلِك الصالحِ نجم ِالدين أيوب من بعض أولاد التركماني، فعُرِفَ بين المماليك البحريَّة بأيبك التركماني، وترقى عنده في الخَدَم، حتى صار أحدَ الأمراء الصالحية، وعَمَلُه جاشنكيرا - متذوّق الطعام السُّلطان- وهو من أخَصِّ موظفي القصر السلطاني إلى أن مات الملك الصالح، وبعد قَتْلِ ابنه توران شاه توَلَّت شجرة الدر السلطنة ومعها عزُّ الدين أيبك، ولما وصل الخبَرُ بذلك بغداد، بعث الخليفةُ المستعصم بالله من بغداد كتابًا إلى مصر، وهو ينكِرُ على الأمراء ويقولُ لهم: إن كانت الرجالُ قد عَدِمَت عندكم، فأعلِمونا حتى نسَيِّرَ إليكم رجلًا، واتفق ورودُ الخبر باستيلاء الملك الناصِرِ على دمشق، فاجتمع الأمراءُ والبحريَّة للمشورة، واتَّفَقوا على إقامة الأمير عزِّ الدين أيبك مُقَدَّم العسكر في السلطنة، ولَقَّبوه بالملك المعز وكان مشهورًا بينهم بدينٍ وكَرَمٍ وجَودةِ رأي، فأركبوه في يومِ السبت آخر شهر ربيع الآخر، وحمل الأمراءُ بين يديه الغاشية –غطاءً للسرج من جلد مخروز بالذهب يُحمَل أمام السلطان- نوبًا واحدًا بعد آخَرَ إلى قلعة الجبل، وجلَسُوا معه على السماط، ونودي بالزينةِ فزُيِّنَت القاهرة ومصر، فورد الخبَرُ في يوم الأحد تاليه تسليم الملك المغيث عمر الكرك والشوبك، وبتسلُّم الملك السعيد قلعة الصبيبة، فلما كان بعد ذلك تجمَّع الأمراء، وقالوا: لا بد من إقامة شخصٍ مِن بيت الملك مع المعِزِّ أيبك ليجتَمِعَ الكل على طاعتِه ويطيعه الملوكُ مِن أهله، فاتفقوا على إقامة المَلِك شرف مظفر الدين موسى بن الملك المسعودِ- ويقال له الناصر صلاح الدين- يوسف بن الملك المسعود يوسف - المعروف باسم القسيس - بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وله من العمر نحو ستُّ سنين، شريكًا للمَلِك المعز أيبك، وأن يقوم المَلِك المعز بتدير الدولة، فأقاموه سلطانًا في ثالث جمادى الأولى، وجلس على السماط وحضر الأمراء، فكانت المراسيمُ والمناشير تخرج عن الملكين الأشرف والمعز، إلا أن الأشرف ليس له سوى الاسم في الشركة لا غير ذلك، وجميعُ الأمور بيد المعز أيبك، فلما ورد الخبَرُ بذلك نودي في القاهرة ومصر أن البلادَ للخليفةِ المستعصم بالله العباسي، وأن المَلِكَ المعز عز الدين أيبك نائبُه بها، وذلك في يوم الأحد سادسه، ووقع الحثُّ في يوم الاثنين على خروج العساكِر، وجُدِّدَت الأيمان للمَلِك الأشرف موسى والملك المعز أيبك، وأن يبرز اسمُهما على التواقيع والمراسيم، ويُنقَش اسمُهما على السكة، ويُخطَب لهما على المنابر، وكانت شجرةُ الدر قد تزوجت الأمير عز الدين أيبك، في تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وخَلَعَت شجرة الدر نفسَها من مملكة مصرَ، ونزلت له عن المُلْك، فكانت مُدَّة دولتِها ثمانين يومًا.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

أخذ الملك الناصر صاحِبُ الشام في الحَرَكةِ لأخذ مصر، بتحريضِ الأمير شمس الدين لؤلؤ الأرمني له على ذلك، فخرج الناصرُ من دمشق بعساكِرِه، يوم الأحد النصفَ من شهر رمضان، ومعه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب ثم برز الأميرُ حسام الدين أبو علي من القاهرة، وكان الوقتُ شِتاءً، وفي تاسع شوال برز الأميرُ فارس الدين أقطاي الجمدار - مقَدَّم البحرية - في جمهورِ العسكر من الترك، وسارت العساكِرُ في الحادي عشر، واجتمعت بالصالحيَّة، ثم في الثالث من ذي القعدة نزل الملِكُ المعز من قلعةِ الجبل فيمن بَقِيَ عنده من العساكرِ، وسار إلى الصالحيَّة، وبها العساكر التي خرجت قَبلَه، وترك بقلعةِ الجبل الملِكَ الأشرف موسى فاستقَرَّت عساكرُ مصر بالصالحيَّة إلى يوم الاثنينِ سابِعَه، فوصل الملكُ الناصر بعساكره إلى كراع وهي قريبة من العباسيَّة، فتقارب ما بين العسكرين وكان في ظَنِّ كل أحد أن النصرةَ إنما تكون للمَلِك الناصر على البحريَّة، لكثرة عساكِرِه ولمَيلِ أكثر عسكرِ مِصرَ إليه، فاتَّفَق أنَّه كان مع الناصر جمعٌ غفير من ممالك أبيه الملك العزيز، وهم أتراكٌ يميلون إلى البحريَّة لعِلَّة الجنسيَّة، ولكراهتهم في الأمير شمس الدين لؤلؤ مديرِ المملكة، فعندما نزل الناصِرُ بمنزلة الكراع، قريبًا من الخشبي بالرمل، رحل المعزُّ أيبك بعساكِرِ مِصرَ مِن الصالحية، ونزل اتجاهَه بسموط إلى يومِ الخميس عاشره، فركب الملكُ الناصر في العساكر، ورتَّبَ مَيمنةَ وميسرةَ وقلب جيشه، ورَكِبَ المعز، ورتَّب أيضًا عساكِرَه، وكانت الوقعةُ في الساعة الرابعة، فاتفق فيها أن الكَرَّة كانت أولًا على عساكر مصر، ثم صارت على الشاميين، وذلك أن ميمنة عسكر الشام حمَلَت هي والميسرة على مَن بإزائها حملة شديدة، فانكَسَرت ميسرة المصريين وولَّوا منهزمين، وزحف أبطالُ الشاميين وراءهم، وما لهم عِلمٌ بما جرى خلفَهم، وانكسرت ميمنةُ أهل الشام، وثبت كلُّ من القلبين واقتَتَلوا، ومر المنهزمون من عسكر مصر إلى بلاد الصعيد، وقد نُهِبَت أثقالهم، وعندما مرُّوا على القاهرة خُطِبَ بها للملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق، وخُطِبَ له بقلعة الجبل ومصر، وأما ميمنة أهل الشام فإنها لما كُسِرَت قتَلَ منهم عسكر مصر خلقًا كثيرًا في الرمل، وأسَروا أكثَرَ مما قتلوا، وتعيَّنَ الظَّفَرُ للناصر وهو ثابتٌ في القلب، واتجاهَه المعز أيبك أيضًا في القلبِ، فخاف أمراء الناصر منه أن ينحِّيَهم إذا تم له الأمر، وخامَروا عليه وفَرُّوا بأطلابِهم إلى الملك المعز، فخارت قوى الناصر من ذَهابِ المذكورين إلى الملك المعز، فحمل المعزُّ بمن معه على سناجق-رماح- الناصر، ظنًّا منه أن الناصِرَ تحتها، فحمل المعزُّ عليهم وثبتوا له، ثم انحاز إلى جانبٍ يريد الفرار إلى جهة الشوبك، ووقف الناصرُ في جمع من العزيزية وغيرهم تحت سناجقه وقد اطمأن، فخرج عليهم المعزُّ ومعه فارس الدين أقطاي في ثلاثمائة من البحرية، وقَرُبَ منه فخامر عِدَّةً مِمَّن كان مع الناصر عليه، ومالوا مع المعزِّ والبحرية، فولى الناصِرُ فارًّا يريد الشام في خاصَّتِه وغلمانِه، واستولى البحريَّةُ على سناجقه، وكسروا صناديقَه ونَهَبوا أمواله، فأمر الملكُ بضَربِ عُنُقِ الأمير شمس الدين لؤلؤ، فأخذته السيوفُ حتى قُطِّع، وضُرِبَت عنق الأمير ضياء الدين القيمري وأتيَ بالملك الصالح إسماعيل وهو راكب، فسَلَّمَ عليه الملك المعز وأوقَفَه إلى جانبه، وتمَزَّق أهل الشام كلَّ مُمَزَّق، وأما العسكر الشامي الذي كَسَر ميسرة المصريين، فإنَّه وصل إلى العباسية ونزل بها، وضَرَب الدهليز الناصريَّ هناك، وفيهم الأميرُ جمال الدين بن يغمور نائب السلطنة بدمشق وعِدَّة من أمراء الناصر، وهم لا يشكُّون أنَّ أمر المصريين قد بَطَل وزال، وأنَّ المَلِكَ الناصر مُقدِمٌ عليهم ليسيروا في خدمتِه إلى القاهرة، فبينا هم كذلك إذ وصل إليهم الخبَرُ بهروب الملك الناصر، وقَتْل الأمراء وأسْر الملوك وغيرهم، فهَمَّ طائفة منهم أن يسيروا إلى القاهرة ويستولوا عليها، ومنهم من رأى الرجوعَ إلى الشام، ثمَّ اتَّفَقوا على الرجوعِ.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1251
تفاصيل الحدث:

هو السُّلطانُ الملك الصالح عماد الدين، أبو الخيش إسماعيل بن الملك العادل محمد بن نجم الدين أيوب بن شاذي صاحب دمشق. تمَلَّك بصرى وبعلَبَّك، وتنقَّلَت به الأحوال، واستولى على دمشقَ أعوامًا، فحارَبَه ابنُ أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، وجرت له أمورٌ طويلة، ما بين ارتفاعٍ وانخفاضٍ، وكان بطلًا شُجاعًا، مَهيبًا شديدَ البطشِ، مليحَ الشَّكلِ، كان في خدمةِ أخيه الأشرفِ، فلما مات الأشرفُ، توثَّبَ على دمشق، وتملَّكَها، فجاء أخوه المَلِكُ الكامِلُ، وحاصَرَه، وأخذ منه دمشقَ، وردَّه إلى بعلبك, وكان فيه جَورٌ, واستقضى على النَّاسِ الرفيع الجيلي، وتضَرَّرَت الرعيةُ بدمشق أثناء حصارِ الخوارزمية في عَهدِه حتى بِيعَ رِطلُ الخبز بستة دراهم، والجُبن واللحم بنسبة ذلك، وأكلوا الميتةَ، ووقع فيهم وباءٌ شديد. وفي (معجم القوصي) في ترجمة الأشراف: "فأخوه الصالح إسماعيل نصر الكافرينَ، وسَلَّم إليهم القلاعَ، واستولى على دمشقَ سَرِقةً، وحَنَث في يمينه، وقتَلَ مِن الملوك والأمراء من كان ينفَعُ في الجهاد، وصادَرَ على يد قضاتِه العِبادَ، وخَرَّب الأملاك، وطَوَّل ذيلَ الظُّلم، وقَصَّر ذيل العدل، وظَنَّ أن المُلك له مُستمِرٌّ، فسقَطَ الدهرُ لغفلتِه، وأراه بلايا", ثم ذهبت منه بعلبك وبُصرى، وتلاشى أمره، فمضى إلى حَلَب، وافدًا على ابنِ أخته، وصار من أمرائه، فلما ساروا ليأخذوا مصر، فغُلب الشاميون، وأُسِرَ جماعة، منهم الملك الصالحُ إسماعيل، في سنة ثمانٍ وأربعين، فسُجِنَ بالقاهرة، ومرُّوا به على تربة السلطان نجم الدين أيوب، فصاحت البحريةُ: يا خوند- سيد أو أمير- أين عينك تنظر إلى عدوِّك؟! وفي آخر ذي القعدة من سنة ثمان أخرجوا الصالحَ ليلًا، ومضوا به إلى الجبَل، فقتلوه، وعُفِيَ أثره. وكانت أمُّه رومية، وكان رئيسَ النَّفسِ نبيلَ القَدرِ، مطاعًا له حُرمة وافرة، وفيه شجاعة.

العام الهجري : 649 العام الميلادي : 1251
تفاصيل الحدث:

اقتتل العسكرُ الأيوبي مع عسكرِ مِصرَ وانهزم عسكرُ الأيوبيِّينَ، ودمشق بيدِ الناصر صلاحِ الدين فعاد المَلِكُ الناصرُ إلى دمشق وقَدِمَت عساكر المصريين فحَكَموا بلاد السواحل حيث استولى الأميرُ فارس الدين أقطاي على الساحِلِ ونابلس إلى نهر الشريعة، فجهَّز لهم الملك الناصِرُ جَيشًا طردهم حتى رَدَّهم إلى الدِّيارِ المصرية، وقَصَرَهم إلى حَدِّ نهر الشريعة، وسَيَّرَ الملكُ الناصرُ عَسكرًا من دمشقَ إلى غزة ليكونَ بها، فأقاموا على تلِّ العجول، فخرَجَ المعزُّ عز الدين أيبك، ومعه الأشرفُ موسى والفارس أقطاي وسائر البحرية، ونزل بالصالحيَّة، فأقام العسكرُ المصري بأرض السانح قريبًا من العبَّاسة، والعسكر الشامي قريبًا من سنتينِ، وتردَّدَت بينهما الرسُلُ.

العام الهجري : 650 العام الميلادي : 1252
تفاصيل الحدث:

قام أمراء المغول ورؤساؤهم بالاجتماعِ برئاسةِ الخاقان الأكبر منكو في جمعيةٍ عامَّةٍ تُدعى قوريلتاري فقرروا فيها القيامَ ببَعثةٍ حربية بقيادة هولاكو مهمتها غزو الدولِ الإسلاميَّة مبتدئين قبل ذلك ببلاد الإسماعيليَّة من ألموت وغيرها.

العام الهجري : 650 العام الميلادي : 1252
تفاصيل الحدث:

وصل التتارُ إلى الجزيرة وسروج ورأس العينِ وما والى هذه البلادَ، فقتلوا وسَبَوا ونهبوا وخَرَّبوا ووَقَعوا بسنجار يسيرونَ بين حران ورأس العين، وكان عِدَّة من قتلوا من أهل الجزيرة نحًوا من عشرة آلاف قتيل، وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك، وسيَّرَ منكوخان ملك التتر أخاه هولاكو لأخذ العراق فسار وأباد أهلَ بلاد الإسماعيلية قتلًا ونهبًا، وأسرًا وسبيًا، ووصَلَت غاراته إلى ديار بكرٍ وميافارقين، وصادفوا قافلةً سارت من حران تريد بغداد، فأخذوا منها أموالًا عظيمة، من جملتها ستُّمائة حمل سكر من عمل مصر، وستمائة ألف دينار.

العام الهجري : 650 العام الميلادي : 1252
تفاصيل الحدث:

تمكَّن السلطان المملوكي عز الدين أيبك من احتلالِ غَزَّة، ودخلت هذ السَّنةُ وهم على نفسِ الأمر من التنافر والاقتتال، وقد التقى الفريقانِ في العباسيَّة على الطريق إلى القاهرة، ثمَّ إن طائفة من العسكر الشامي انحازوا إلى العسكر المصري، فكانت هزيمةً على العسكرِ الشامي أُسِرَ فيها عددٌ مِن الأمراء الذين حُمِلوا إلى مصر وسُجِنوا في القلعةِ.

العام الهجري : 650 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1252
تفاصيل الحدث:

هو الشيخُ الإمامُ العلَّامة المحَدِّث، إمامُ اللغة رضي الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر علي المعروف بالصاغاني، القرشي، العدوي، العمري، الصاغاني الأصل، الهندي اللهوري المولد، البغدادي الوفاة، المكي المدفن، الفقيه الحنفي، صاحب التصانيف. أحد أئمَّة اللغة في القرن السابع الهجري, وكان إليه المنتهى في معرفة اللِّسانِ العربي. وُلِدَ في لاهور بالهند في صفر سنة 577, ونشأ بغزنة من بلاد السند وقدم بغداد، ثم ذهب رسولًا من الخليفة إلى ملك الهند أكثر من مرة، ورحل إلى اليمن، وتوفي ودفن في بغداد بدارِه بالحريم الطاهري، وكان قد أوصى أن يُدفَنَ بمكة، فنُقِلَ إليها ودفن بها. له عدة مؤلَّفات لُغوية، من أشهرها: "العُباب الزاخر" وهو معجم كبير، و"التكملة والذيل والصلة" و"تاج اللغة" و"صحاح العربية".

العام الهجري : 651 العام الميلادي : 1253
تفاصيل الحدث:

قام الملك الناصرُ صلاح الدين صاحِبُ دمشق بطَلَب العونِ مِن ملك الفرنجِ فريدريك الثاني وهو في عكَّا على أن يُسَلِّمَه القُدسَ مقابِلَ هذه المساعدة ضِدَّ العسكر المصري، ولكِنَّ فريدريك رفض طلبَه ذاك لوجودِ معاهدة بينه وبين المماليكِ تمنعُ مناصرةَ خُصومِهم في الحرب، وقد قال ابن كثير في تاريخه "إن الجيشَ المصريَّ قد تمالأ أيضًا مع الفرنج على تسليمِهم القدس إن هم نصروهم على الشاميِّين, فالله أعلمُ بحقيقة الحال".

العام الهجري : 651 العام الميلادي : 1253
تفاصيل الحدث:


ثار العُربان ببلاد الصعيدِ وأرضِ بحري، وقطعوا الطريق برًّا وبحرًا، فامتنع التجَّار وغيرُهم من السفر، وقام الشريفُ حِصنُ الدين ثعلب بن الأمير الكبير نجمِ الدين علي بن الأمير الشريف فخر الدين إسماعيل بن حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن جعفر بن موسى، وقال نحن أصحابُ البلاد، ومنع الأجنادَ مِن الخراج، وصَرَّح هو وأصحابُه بأنَّا أحَقُّ بالمُلكِ مِن المماليك، وقد كفى أنَّا خَدَمْنا بني أيوب، وهم خوارِجُ خرجوا على البلاد، وأنِفُوا من خدمةِ التركِ، وقالوا إنما هم عَبيدٌ للخوارِجِ، وكتبوا إلى الملك الناصِرِ صاحب دمشق يستحثُّونه على القدوم إلى مِصرَ، واجتمع العَرَبُ- وهم يومئذٍ في كثرة من المالِ والخيل والرجال- إلى الأمير حصنِ الدين ثعلب، وهو بناحيةِ دهروط صربان، وأتوه من أقصى الصعيدِ، وأطراف بلاد البحيرة والجيزة والفيوم، وحَلَفوا له كلُّهم، فبلغ عِدَّةُ الفرسان اثني عشر ألف فارس، وتجاوزت عدَّةُ الرجَّالة الإحصاء لكثرتهم، فجهَّزَ إليهم الملك المعز أيبك الأميرَ فارس الدين أقطاي المستعرب، في خمسةِ آلاف فارس، فساروا إلى ناحيةِ ذروة، وبرَزَ إليهم الأميرُ حصن الدين ثعلب، فاقتتل الفريقانِ مِن بكرة النهار إلى الظهر، فقَدَّرَ الله أنَّ الأمير حصن الدين تقنطَرَ عن فرسه، فأحاط به أصحابُه وأتت الأتراكُ إليه، فقُتِلَ حَولَه من العرب والعبيدِ أربعُمائة رجل، حتى أركبوه، فوجَدَ العرَبَ قد تفرَّقوا عنه، فولى منهزمًا، وركب التركُ أدبارهم، يقتُلونَ ويأسِرونَ حتى حال بينهم الليلُ، فحووا من الأسلابِ والنِّسوانِ والأولاد والخيول والجمال والمواشي ما عَجَزوا عن ضبطه، وعادوا إلى المخيَّم ببلبيس، ثم عَدَوا إلى عرب الغربية والمنوفية من قبيلتي سنبس ولواتة، وقد تجمَّعوا بناحية سخا وسنهور، فأوقعوا بهم وسَبَوا حريمَهم وقتلوا الرجال، وتبدَّدَ كل عرب مصر وخَمَدَت جمرتُهم من حينئذ، ولحِقَ الشريف حصنُ الدين مَن بَقِيَ مِن أصحابه، وبعث يطلبُ مِن الملك المعز الأمان، فأمَّنَه ووعده بإقطاعاتٍ له ولأصحابه، ليصيروا من جملةِ العسكرِ وعونًا له على أعدائه، فانخدع الشريفُ حصن الدين، وظن أنَّ التركَ لا تستغني عنه في محاربةِ الملك الناصر، وقَدِمَ في أصحابه وهو مطمئِنٌّ إلى بلبيس، فلما قرب من الدهليز نزل عن فرَسِه ليحضُرَ مجلِسَ السلطان، فقُبِضَ عليه وعلى سائِرِ مَن حضر معه، وكانت عِدَّتُهم نحوَ ألفَي فارس وستمائة راجل، وأمر الملك المعِزُّ فنُصِبَت الأخشابُ مِن بلبيس إلى القاهرة وشُنِقَ الجميع، وبَعَث بالشريفِ حِصن الدين إلى ثغرِ الإسكندرية، فحُبِسَ بها وسُلِّمَ لواليها الأمير شمس الدين محمد بن باخل، وأمر المعِزُّ بزيادة القطعية على العَرَب، وبزيادة القَوَد المأخوذ منهم، ومعاملتهم بالعُنفِ والقَهرِ، فذَلُّوا وقَلُّوا.

العام الهجري : 651 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1253
تفاصيل الحدث:

قام الخليفةُ العباسيُّ المستعصم بالتوسُّط بين الأيوبيين أصحابِ الشَّامِ وبين المماليك أصحابِ مِصرَ لما كان بينهم من الحروب، فأرسل الشيخَ نجم الدين البادرائي للتوسُّط بينهم، الذي حمل رسالةً إلى الطرفين فتقرر الصلحُ بين الملك المعز أيبك وبين الملك الناصر صاحب دمشق، بسفارةِ نجم الدين البادرائي، وقد قَدِم نجمُ الدين إلى القاهرة، وصَحِبَه عز الدين أزدمر، وكاتبُ الإنشاء بحَلَب نظام الدين أبو عبد الله محمد بن المولى الحلبي، لتمهيدِ القواعد، فلم يبرحَا إلى أن انفصَلَت القضية على أن يكون للمصريِّينَ إلى الأردن، وللناصر ما وراء ذلك، وأن يدخُلَ فيها للمصريين غَزَّة والقدس ونابلس والساحلُ كله، وأن المعِزَّ يُطلِقُ جميع مَن أسَرَه من أصحاب الملك الناصر، وحَلَفَ كل منهما على ذلك، وكُتِبَت به العهود، وعاد المَلِكُ المعز وعسكره إلى قلعةِ الجبل في يوم الثلاثاء سابع صفر، ونزل البادرائي بالقاهرة، وأطلق الملك المعزُّ الملك المعظَّم توران شاه بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأخاه نُصرة الدين، وسائرَ أولاد الملوك والأمراء، وأحضَرَهم دار الوزارة ليشهَدوا حَلِفَه للملك الناصر.