الموسوعة الحديثية


- إنَّ أَدنى أهلِ النَّارِ عذابًا منتعِلٌ بنعلَينِ من نارٍ يَغلي دماغُهُ من حرارةِ نعليهِ ، وإن أدنى أهلَ الجنة منزلةً رجلٌ صرفَ اللَّهُ وجهَهُ عن النَّارِ قِبلَ الجنَّةِ ، ومثَّلَ له شجرةً ذاتَ ظلٍّ ، فقالَ : أي ربِّ قدَّمَني إلى هذِهِ الشَّجَرةِ لأكونَ في ظلِّها ، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ : هل عسيتَ إن فعلتَ أن تسألَني غيرَهُ ؟ قال : لا وعزَّتِكَ فقدَّمهُ اللَّهُ إليها ومَثَّلَ له شجرةً ذاتَ ظلٍّ وثمرٍ أُخرى ، فقال : أي ربِّي قدِّمني إلى هذهِ أستظِلُّ بظلِّها و آكُلُ من ثمرِهِا قال : فقال هَلْ عسَيتَ إن أعطيتُكَ ذلكَ أن تسألَني غيرَهُ ، قال : لا وعزَّتِكَ فيقدِّمُهُ اللَّهُ إليها فيمثِّلُ له شجرةً أخرى ذاتَ ظلٍّ وثمرٍ وماءٍ ، فيقولُ : أي ربِّ قدِّمني إلى هذه الشَّجرَةِ فأكونَ في ظلِّها و آكلَ من ثمرِها وأشربَ من مائها ، هل عسيتَ إن فعلتُ ذلك أن تسألَني غيرَهُ ، فيقول : لا وعزَّتِكَ ولا أسأَلُكَ غيرَهُ فيقدِّمُهُ اللهُ إليها فتبرُزُ له الجنَّةُ ، فيقولُ : أي ربِّ قدِّمني إلى بابِ الجنَّةِ فأكونَ نِجافَ الجنَّةِ - وفي روايةٍ : تحتَ نِجافِ الجنَّةِ أنظرُ إلى أهلِها – فيقدِّمُهُ اللهُ إليها فيرى أهلَ الجنَّةِ وما فيها ، فيقولُ أي ربِّ أدخِلني الجنَّةَ فيُدخِلُهُ الجنَّةَ ، فإذا دخل الجنَّةَ ، قال : هذا لي ، فيقولُ له : تَمنَّ . قال : فيتمنَّى ويُذَكِّرُهُ اللهُ سَل كذَا وكَذا فإذا انقطَعَت به الأماني ، قال اللَّهُ : هو لك وعشرَةُ أمثالِهِ ، قال : ثُمَّ يدخُلُ بيتَهُ ويدخُلُ عليه زوجتاهُ من الحورِ العينِ ، فيقولانِ : الحمدُ للهِ الذي أحياك لَنا وأحيانا لكَ ، فيقولُ : ما أُعطِيَ أحدٌ مثلَ ما أُعطيتُ
الراوي : أبو سعيد الخدري | المحدث : ابن القيم | المصدر : حادي الأرواح | الصفحة أو الرقم : 329 | خلاصة حكم المحدث : إسناده وإسناد مسلم سواء | التخريج : أخرجه مسلم (211،188) مفرقاً بلفظ مقارب
مَن أنْعَمَ اللهُ تعالى عليه بأنْ أَنْجاهُ مِن النَّارِ وأدْخلَهُ الجنَّةَ، فقدْ فازَ؛ فإنَّ عذابَ اللهِ وشِدَّتَه أمْرٌ غيرُ مُتصوَّرٍ لِأيِّ إنسانٍ، وما وصَفَهُ اللهُ في القُرآنِ، وما ذكَرهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سُنَّتِه مِن عذابِ العاصينَ؛ يُوضِّحُ صُورةً مِن شِدَّةِ هذا العذابِ في جهنَّمَ وساءتْ مَصيرًا، وهو ما يَسْتدعي أنْ يَخافَ كلُّ إنسانٍ مِن سُوءِ العذابِ يومَ القِيامةِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "إنَّ أَدْنى أهْلِ النَّارِ عذابًا"، أي: إنَّ أقلَّ أهلِ النَّارِ عَذابًا، "مُنتعِلٌ بنَعْلينِ مِن نارٍ"، أي: يُجعَلُ في قَدمَيه أو حَوْلهما نَعْلانِ مُحيطانِ بهما، مَصنوعانِ مِن نارِ جهنَّمَ؛ كما قال تعالى: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19]، ومع تَصوُّرِ هذينِ النَّعْلينِ، وأنَّه أقلُّ أهْلِ النَّارِ عذابًا، فإنَّه "يَغْلي دِماغُه مِن حَرارةِ نَعْلَيه"، وغَليانُ الدِّماغِ مِن حَرارةِ النَّعلينِ يُوضِّحُ مَدى شِدَّةِ هذه الحرارةِ الصَّادرة عن نَعْلينِ فقطْ مِن النَّارِ، وتدلُّ على أنَّ العذابَ والغَليانَ قد وقَعَا على الجسَدِ كلِّه، "وإنَّ أَدْنَى أهْلِ الجنَّةِ مَنزِلةً"، أي: إنَّ أقلَّهم نَصيبًا فيها وعَطاءً، "رَجُلٌ صَرَفَ اللهُ وجْهَهُ عنِ النَّارِ قِبَلَ الجنَّةِ"، أي: بعْدَ أنْ أخْرجَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ صَرَفَ وَجْهَهُ عنها ووَجَّهَهُ نحوَ الجنَّةِ، "ومثَّلَ له شَجرةً ذاتَ ظِلٍّ"، أي: أظْهَرَ اللهُ له على مَرْمَى بَصَرِه شَجرةً لها ظِلٌّ، فقال الرَّجُلُ مُنادِيًا رَبَّه عزَّ وجلَّ: "أيْ رَبِّ، قَدِّمْني إلى هذه الشَّجرةِ لِأكونَ في ظِلِّها"، أي: قَرِّبْني منها؛ لِأَسْتَظِلَّ بظِلِّها، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: "هل عسيْتَ إنْ فعلْتْ أنْ تَسأَلَني غيرَه؟" أي: إنْ أعْطيتُك ما طلَبْتَه وقرَّبْتُك مِن هذه الشَّجرةِ، فلا تَسأَلْني شيئًا آخرَ، "قال: لا وعِزَّتِك، فقدَّمَه اللهُ إليها، ومثَّلَ له شجرةً ذاتَ ظِلٍّ وثمَرٍ أُخرى، فقال: أيْ ربِّي، قَدِّمني إلى هذه، أستظِلَّ بظِلِّها وآكُلَ مِن ثمَرِها، قال: فقال: هلْ عسيْتَ إنْ أعْطيتُك ذلك أنْ تَسأَلَني غيرَه؟ قال: لا وعِزَّتِك، فيُقدِّمُه اللهُ إليها، فيُمثِّلُ له شَجرةً أُخرى ذاتَ ظِلٍّ وثمَرٍ وماءٍ، فيقولُ: أيْ ربِّ، قَدِّمْني إلى هذه الشَّجرةِ، فأكونَ في ظِلِّها، وآكُلَ مِن ثمَرِها، وأشرَبَ مِن مائِها، فقال: هلْ عسيْتَ إنْ فعلْتُ ذلك أنْ تَسأَلَني غيرَهُ؟ فيقول: لا وعِزَّتِك، ولا أسأَلُك غيرَه، فيُقدِّمُه اللهُ إليها، فتَبرُزُ له الجنَّةُ"، أي: فتَظهَرُ له الجنَّةُ ويَراها، "فيقولُ: أيْ ربِّ، قَدِّمْني إلى بابِ الجنَّةِ، فأكونَ نِجافَ الجنَّةِ- وفي رِوايةٍ: تحتَ نِجافِ الجنَّةِ-"، والنِّجافُ: أعْلى البابِ، "أنظُرُ إلى أهْلِها، فيُقدِّمُه اللهُ إليها، فيَرى أهْلَ الجنَّةِ وما فيها، فيقولُ: أيْ ربِّ، أدْخِلني الجنَّةَ، فيُدخِلُه الجنَّةَ، فإذا دخَلَ الجنَّةَ، قال: هذا لي، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للرَّجلِ: "تمَنّ، فيَتمنَّى" وهكذا يظَلُّ الرَّجلُ يَسأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَقترِبَ مِن شَجرةٍ تِلوَ الشَّجرةِ شَريطةَ إنْ ذهَبَ إلى إحداها ألَّا يَطمَعَ في الَّتي بَعدَها، وهي أحسَنُ مِن الَّتي يقِفُ في ظِلِّها، ولشَغفِ قلْبِ ابنِ آدَمَ بها، يَقبَلُ هذا الشَّرطَ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، وحِينما يأْتي شَجرةً على بابِ الجنَّةِ، فيَسمعُ أصواتَ أهلِ الجنَّةِ، يَطلُبُ ويتمنَّى على اللهِ عزَّ وجلَّ دُخولَها، "ويُذَكِّرُهُ اللهُ: سَلْ كذا وكذا"، أي: يُذَكِّرُ اللهُ عزَّ وجلَّ الرَّجلَ الَّذي يكونُ أقلَّ أهْلِ الجنَّةِ مَنزِلةً بما في الجنَّةِ مِن نَعيمٍ غابَ عنه، ويُسمِّي له ما فيها، "فإذا انْقَطعَتْ به الأمانيُّ"، أي: انتهَتْ طَلَباتُهُ، ونَفِدَتْ رَغباتُه، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: "هو لك وعشَرةُ أمثالِهِ"، أي: عشَرةُ أضعافِ ما تمنَّيْتَ وطلَبْتَ، قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "ثمَّ يَدخُلُ بَيْتَه"، أي: في الجنَّةِ، "ويَدخُلُ عليه زَوْجتاهُ مِنَ الحُورِ العِينِ"، والحورُ العِينُ: نِساءُ أهلِ الجنَّةِ، والمُرادُ بالحَوْراءِ: الشَّديدةُ بَياضِ العَينِ، الشَّديدةُ سَوادِها، والمُرادُ بالعِينِ: أنهنَّ واسعاتُ الأَعيُنِ، فيَقولانِ: "الحمْدُ للهِ الَّذي أَحْياكَ لنا وأَحْيانَا لكَ"، أي: الَّذي خلَقَكَ لنا وخلَقَنَا لكَ، قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "فيقولُ"، أي: الرَّجلُ: "ما أُعْطِيَ أحَدٌ مِثْلَ ما أُعْطِيتُ"، أي: يَظُنُّ الرَّجُلُ بما أعطاهُ اللهُ مِن نَعيمٍ في الجنَّةِ أنَّه أخَذَ أعْلى مَنزِلةٍ في الجنَّةِ.
وفي الحديثِ: التَّخويفُ مِن النَّارِ، والحثُّ على عَملِ ما يُبعِدُ عنها.
وفيه: بَيانُ سَعَةِ فَضلِ اللهِ سُبحانَه وجَزيلِ عَطائِه لعَبدِه المؤمنِ؛ حيث كان هذا العَطاءُ الجزيلُ لِمَن هو أقلُّ مَنزلةً في الجنَّةِ؛ فكيف الظَّنُّ بمَن هو أعْلَى مَنزلةً؟!