أحَلَّ اللهُ لأُمَّةِ الإسلامِ الطَّيِّباتِ، وحرَّمَ عليها الخبائثَ، ووسَّعَ عليها في كثيرٍ من الأُمورِ الَّتي كان مُضيَّقةً على الأُمَمِ قبْلَهم، ومن ذلك: أنَّ اللهَ أحَلَّ للمُسلِمين غنائمَ الحرْبِ، وهذا من خصائصِ هذه الأُمَّةِ بحِلِّ الغَنيمةِ؛ تَوسعةً عليهم، وكان ابتداءُ ذلك من غزْوةِ بدْرٍ، وفيها نزَلَ قولُه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}
[الأنفال: 69] .
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "لم تَحِلَّ الغنائمُ" وهي ما يأخُذُه المُحارِبون من أموالِ وعتادِ المَهزُومين في الحرْبِ، "لأحدٍ سُودِ الرُّؤوسِ" والمُرادُ بسُودِ الرُّؤوسِ بنو آدمَ؛ لأنَّ رُؤوسَهم سُوداءُ، كأنَّه يقولُ: لم يُحِلَّ اللهُ أخْذَ الغنائمِ لأحدٍ من البَشرِ، "من قبْلِكم"، أي: من الأُمَمِ الَّتي سبَقَتْ أُمَّةَ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ بيَّنَ ما كان يُصْنَعُ بها؛ فقال: "كانت تنزِلُ نارٌ من السَّماءِ فتأكُلُها"، أي: تحرِقُها تمامًا بأمْرِ اللهِ.
قال سليمانُ الأعمشُ- أحدُ رُواةِ هذا الحديثِ-: "فمَن يقولُ هذا إلَّا أبو هُريرةَ الآنَ؟" ومُرادُه: أنَّه لا يقولُ أحدٌ الآنَ في هذا الحديثِ لفْظَ: "سُودِ الرُّؤوسِ" إلَّا أبو هُريرةَ، يعني: لم يَرِدْ هذا اللَّفظُ إلَّا في حديثِه، وهذا مِن تَمامِ العِنايةِ بحِفظِ الرِّواياتِ.
قال: "فلمَّا كان يومُ بدْرٍ"، أي: لَمَّا جاء يومُ بَدرٍ وهُزِمَ المُشرِكون في غزْوةِ بدْرٍ، "وقَعوا في الغَنائمِ قبْلَ أنْ تحِلَّ لهم"، أي: وتحصَّلوا على غنائمِهم، فأنزَلَ اللهُ تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}
[الأنفال: 68] ، أي: بإحلالِ الغنائمِ والأسْرى لكم، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، أي: لَنالَكم وأصابَكم بسبَبِ ما أخذْتُم من الفِداءِ بالأموالِ عَذابٌ عظيمٌ من اللهِ تعالى.