الزَّوَاجُ شَريعةٌ ربَّانِيَّةٌ، سَمَّاه اللهُ ميثاقًا غليظًا، وجعَل أساسَ العَلاقةِ بيْن الزَّوْجيْنِ المودَّةَ والرَّحمةَ وتحقيقَ مصالحِ الزَّواجِ الأُخرى، فإذا لم يَتحقَّقْ في الزَّوَاجِ الأهدافُ المنشودةُ منه فإنَّ الفِرَاقَ أوْلَى مِن بَقاءِ العَلاقَةِ.
وفي هذا الحَديثِ أنَّ يَزيدَ أبا رُكَانَةَ طلَّقَ زوْجَتَه، ثم راح وتَزوَّجَ بامرأةٍ أخرى مِن قَبيلةِ مُزَيْنَةَ، فجاءتْ تلك المرأةُ الْمُزَنِيَّةُ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم شاكِيةً له مِن زوْجِها أبِي رُكَانةَ، تقول: ما يُغْنِي عنِّي إلَّا كما تُغنِي هذه الشَّعْرَةُ! لِشَعْرَةٍ أخذَتْهَا مِن رأسِها. أي: إنَّها تَتَّهِمُ زوْجَها بالعُنَّةِ وأنَّه لا يُجامِعُها، و"العِنِّينُ" هو مِن تُعْيِيه مُبَاضَعَةُ النِّساءِ ويَعْجِزُ عنها، فعبَّرَتْ بالكِنَايةِ أنَّها لم تَسْتَفِدْ منه شيئًا مِثْل شَعْرَةِ رأْسِها، ثم طلَبَت الفِرَاقَ، فقالت: ففَرِّقْ بَيْنِي وبينه.
فلمَّا سمِع النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم شكْوَاها وطَلَبَها التَّفْرِيقَ أخَذَتْه الحَمِيَّةُ، أي: الغَيْرةُ والغَضَب، وأراد التَّأكُّدَ مِن ادِّعائِها، فدعا برُكَانَةَ وإخْوتِهِ، أي: أولادِ أبِي رُكَانَةَ الَّتي اتَّهَمَته المرْأَةُ بالعُنَّةِ، ثم قال لجلَسائه: «أترون فُلانًا يُشْبِه منه كذا وكذا من عبدِ يزيد؟ وفلانًا يُشبه منه كذا وكذا؟»، أي: إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم تَوجَّه إلى العالِمينَ بالأنسابِ، فسأَلَهم: هل يُشبِهُ أولادُ أبي رُكَانَة أباهُم في الخِلْقَةِ والصُّورةِ؟ فقالوا: نعم. يُشبِهُونه، وبذلك ظهَر كَذِبُ ادِّعاءِ المرْأَةِ على الرَّجُلِ بأنه عِنِّينٌ. فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي رُكَانَةَ: «طلِّقْها»، أي: طلِّقْ تلك المرأةَ الْمُزَنِيَّةَ؛ لأنَّها طلَبَت ذلك، فطلَّقَها الرَّجُلُ، ثمَّ قال له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «راجِع امرأتَكَ أُمَّ رُكانَة وإِخْوَتِه»، فقال الرجُل: إنِّي طلَّقْتُها ثلاثًا يا رسولَ الله، أي: كيف أُراجِعُها وقد بانَتْ منِّي بالطَّلْقَات الثَّلاثِ؟! فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم: «قد علمْتُ، رَاجِعْها»، وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
[الطلاق: 1] ، أي: إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَعُدَّ الطَّلَقَاتِ الثلاثَ بائِنةً، بل عدَّها طلْقَةً واحِدةً.
وقد اختُلِفَ في أمْرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي رُكانةَ بمُراجعةِ أمِّ رُكانةَ، بحسَبِ الرِّواياتِ المذكورةِ في تِلك القِصَّةِ، وبحسَب قوله: "ثلاثًا" باعتبارِ أنَّ مُرادَه التأكيدُ، وقدْ ذُكِرَ عن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما: "أنَّه كان على عَهدِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى عَهدِ أبي بَكرٍ وشَيءٍ مِن خِلافةِ عُمرَ طَلاقُ الثَّلاثِ واحدةً".
وقوله: (عبد يَزيد أبو ركانة) قيل: إنَّ ذِكرَه في هذا الخبرِ خَطأٌ؛ فإنَّ عبدَ يَزيد لم يُدرِكِ الإسلامَ، وإنَّما صاحبُ القِصَّةِ هو رُكانةُ، وليس والدَه.
وفي الحديثِ: ضَرورةُ التَّثَبُّتِ في أيِّ دعوَى على النَّاسِ.
وفيه: اعتبارُ الطَّلَقَاتِ الثَّلاثِ في المجلِسِ الوَاحِدِ طَلْقَةً واحِدةً. .