لم يَترُكِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم شَيئًا إلَّا وبيَّنَه لأصحابِه، وأمَّتِه مِن بعدِهم فيما يَصلُحُ لهم، ويَنفَعُهم، ومِن الأمثلةِ على ذلك: أنَّه بيَّن لهم ما هي الآنيةُ الَّتي يَشرَبون فيها، والآنيةُ الَّتي يَجتنِبونَها.
وفي هذا الحَديثِ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "لا تَشرَبوا في نَقِيرٍ"، وهو: وِعاءٌ خشَبيٌّ يُتَّخَذُ مِن جِذْعِ النَّخلِ ويُفرَّغُ مِن الدَّاخلِ، "ولا مُزَفَّتٍ"، وهو: إناءٌ مَدْهونٌ بالزِّفتِ، وهُوَ شيءٌ أَسودُ، يُمَتَّنُ به الزِّقاقُ للخَمْرِ، "ولا دُبَّاءٍ"، وهو: وعاءٌ يُتَّخَذُ مِن قِشْرةِ نَباتِ القَرْعِ بحيثُ تُفرَّغُ الثَّمَرةُ مِن الدَّاخلِ وتَبْقى القِشرةُ على هيئةِ وِعاءٍ دائريٍّ مُجوَّفٍ، "ولا حَنْتَمٍ"، وهو: إناءٌ أخضَرُ كان يُحمَلُ فيه الخَمرُ.
ثم قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "واشرَبوا فِي الجِلْدِ"، أي: الأواني الجِلديَّةِ الَّتي تُصنَعُ مِن الجِلدِ، وهي القِرَبُ، "الموكَى علَيه"، أي: المَقْفولِ عليه؛ حيثُ كانوا يَربِطونَ رأسَ القِرْبةِ برِباطٍ فيُغلِقونَها.
وقد بيَّنَتِ الرِّواياتُ الأُخرى أنَّ هذا النَّهيَ والأمرَ ليس في عامَّةِ الشُّربِ، ولكنَّه نهيٌ وأمرٌ مخصوصٌ بالانتِبَاذِ، وهو نَقْعُ الزَّبيبِ أو التَّمرِ وما شابَهَهما في الماءِ وتَرْكُه حتَّى يَذوبَ في الماءِ فيَحْلُوَ به الماءُ العَسِر والمالِحُ، أمَّا إذا تُرِكَ هذا النَّقيعُ حتَّى يشتَدَّ ويتَخمَّرَ ويُسكِرَ، فلا يُشرِبُ؛ ولذلك قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فإنِ اشتَدَّ عليكُم"، أي: إنْ ثَقُلَ الشَّرابُ الذي تَحفَظونَه في القِرَبِ وأصبَحَ شديدًا مُركَّزًا، "فاكْسِرُوه بالماءِ"، أي: اكسِرُوا شِدَّتَه وحِدَّتَه وخَفِّفوه بالماءِ، "فإنْ أعياكُم"، أي: فإنْ أتعَبَكم فلَم تَستَطيعوا تَخفيفَه؛ لشِدَّةِ تَركيزِه وتَخمُّرِه وإسكارِه، "فأَهْريقُوه"، أي: فاسْكُبوه واطْرَحُوه.
وفي الحديثِ: اجتِنابُ الآنيةِ الَّتي يَسرُعُ فيها التَّخمُّرُ.
وفيه: سدُّ الذَّرائعِ الَّتي تُؤدِّي إلى المحظورِ شرعًا.