الموسوعة الحديثية


-  لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، قالَ: دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بالحَصَى، ويقولونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، وَذلكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بالحِجَابِ، فَقالَ عُمَرُ، فَقُلتُ: لأَعْلَمَنَّ ذلكَ اليَومَ، قالَ: فَدَخَلْتُ علَى عَائِشَةَ، فَقُلتُ: يا بنْتَ أَبِي بَكْرٍ، أَقَدْ بَلَغَ مِن شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ؟! فَقالَتْ: ما لي وَما لكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ! عَلَيْكَ بعَيْبَتِكَ، قالَ: فَدَخَلْتُ علَى حَفْصَةَ بنْتِ عُمَرَ، فَقُلتُ لَهَا: يا حَفْصَةُ، أَقَدْ بَلَغَ مِن شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ؟! وَاللَّهِ لقَدْ عَلِمْتِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لا يُحِبُّكِ، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَبَكَتْ أَشَدَّ البُكَاءِ، فَقُلتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ؟ قالَتْ: هو في خِزَانَتِهِ في المَشْرُبَةِ، فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا برَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَاعِدًا علَى أُسْكُفَّةِ المَشْرُبَةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ علَى نَقِيرٍ مِن خَشَبٍ، وَهو جِذْعٌ يَرْقَى عليه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِرُ، فَنَادَيْتُ: يا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لي عِنْدَكَ علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إلى الغُرْفَةِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَقُلْ شيئًا، ثُمَّ قُلتُ: يا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لي عِنْدَكَ علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إلى الغُرْفَةِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَقُلْ شيئًا، ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي، فَقُلتُ: يا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لي عِنْدَكَ علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ؛ فإنِّي أَظُنُّ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِن أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بضَرْبِ عُنُقِهَا، لأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي، فأوْمَأَ إِلَيَّ أَنِ ارْقَهْ، فَدَخَلْتُ علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَهو مُضْطَجِعٌ علَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فأدْنَى عليه إِزَارَهُ وَليسَ عليه غَيْرُهُ، وإذَا الحَصِيرُ قدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ ببَصَرِي في خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَنَا بقَبْضَةٍ مِن شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظًا في نَاحِيَةِ الغُرْفَةِ، وإذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، قالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قالَ: ما يُبْكِيكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ؟ قُلتُ: يا نَبِيَّ اللهِ، وَما لي لا أَبْكِي وَهذا الحَصِيرُ قدْ أَثَّرَ في جَنْبِكَ، وَهذِه خِزَانَتُكَ لا أَرَى فِيهَا إِلَّا ما أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى في الثِّمَارِ وَالأنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَصَفْوَتُهُ، وَهذِه خِزَانَتُكَ! فَقالَ: يا ابْنَ الخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟ قُلتُ: بَلَى. قالَ: وَدَخَلْتُ عليه حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَى في وَجْهِهِ الغَضَبَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ما يَشُقُّ عَلَيْكَ مِن شَأْنِ النِّسَاءِ؟ فإنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ، فإنَّ اللَّهَ معكَ، وَمَلَائِكَتَهُ، وَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ معكَ، وَقَلَّما تَكَلَّمْتُ -وَأَحْمَدُ اللَّهَ- بكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الذي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وَكَانَتْ عَائِشَةُ بنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ علَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قالَ: لَا، قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي دَخَلْتُ المَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بالحَصَى، يقولونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قالَ: نَعَمْ، إنْ شِئْتَ، فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حتَّى تَحَسَّرَ الغَضَبُ عن وَجْهِهِ، وَحتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ، وَكانَ مِن أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا، ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بالجِذْعِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَأنَّما يَمْشِي علَى الأرْضِ ما يَمَسُّهُ بيَدِهِ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّما كُنْتَ في الغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، قالَ: إنَّ الشَّهْرَ يَكونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، فَقُمْتُ علَى بَابِ المَسْجِدِ، فَنَادَيْتُ بأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذلكَ الأمْرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ.
الراوي : عمر بن الخطاب | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم | الصفحة أو الرقم : 1479 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
رُبَّما كان مِنْ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَن يَقَعُ منها في حَقِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِثلُ ما يَقَعُ مِنَ النِّساءِ في حَقِّ أزواجِهِنَّ مِنَ الغَيْرةِ والمُضايَقاتِ وما شابَه.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي عُمرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا اعتزَلَ أزواجَه وأقسَمَ ألَّا يدخُلَ عليهنَّ؛ وذلك لغضَبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منهنَّ، فدخَلَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه مسجِدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «فإذا النَّاسُ يَنْكُتونَ بالحَصى»، أي: يُحرِّكونَه ويَضرِبونَ به في الأرضِ، وهذا مِن فِعلِ المَهمومِ المُفكِّرِ، «ويقولونَ: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نِساءَه»، أي: أنَّهم لَمَّا رَأَوُا اعتِزالَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لنِسائِه ظنُّوا أنَّه طلَّقَهُنَّ، فقالوا ذلك، «وذلك قبْلَ أنْ يُؤمَرْنَ بالحِجابِ»، أي: احْتجابِ النِّساءِ عنِ الرِّجالِ، وفي هذا القولِ نظَرٌ، بلْ يُعَدُّ غلطًا ظاهرًا؛ وذلك أنَّ الحجابَ قد نزَلَ وقتَ زواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من زينبَ بنتِ جَحشٍ رَضيَ اللهُ عنها سنةَ أربعٍ أو خَمسٍ، وكانت زينبُ رَضيَ اللهُ عنها فيمَن خُيِّرَ من نِسائِه، وقصَّةُ اعْتزالِه وتَخْييرِه لنِسائِه قد وقعَتْ في السَّنةِ التَّاسعةِ منَ الهجرةِ، وأفضَلُ ما قيلَ في تَوجيهِ ذلك أنَّ قولَه: «وذلك قبْلَ أنْ يُؤمَرْنَ بالحِجابِ» من كلامِ الرَّاوي، وأنَّه لمَّا رَأى قولَ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه دخَلَ على عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها ظنَّ أنَّ ذلك قبلَ الحجابِ فجزَمَ به، والجوابُ عليه: أنَّه لا يلزَمُ منَ الدُّخولِ رفعُ الحجابِ، فقد يدخُلُ منَ البابِ وتُخاطِبُه من وراءِ الحجابِ.
ثُمَّ أخبَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قال في نفْسِه: «لَأَعْلَمَنَّ ذلك اليومَ»، أي: أتبيَّنُ الأمْرَ على حَقيقتِه، هل طلَّقَهُنَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أم لا؟ فدخَلَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه على عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، زوْجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبنتِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنهما، وقال لها: «يا بنتَ أبي بَكرٍ، أَقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أنْ تؤذِيَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟!» يَعيبُ عليها تَجَرُّؤَها على إغْضابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها: «ما لي وما لكَ يا ابنَ الخطَّابِ!»، أي: ليس لكَ مَوْعِظَتي، «عليكَ بعَيْبَتِكَ»، أي: بل عليكَ بمَوْعظةِ مَن يخُصُّكَ، وتَقصِدُ بذلك: حَفْصةَ بنتَ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنها، والعَيْبةُ: الوِعاءُ الَّذي تُجعَلُ فيه الثِّيَابُ ونَفيسُ المتاعِ، وعَيْبةُ الرَّجُلِ: هُمْ أهلُه وخاصَّتُه، ثُمَّ دخَلَ عُمرُ على ابنتِه حَفْصةَ، وقال لها مثلَ قولِه لعائشةَ رَضيَ اللهُ عنهم، وزادَ مُعاتبًا لها: «واللهِ، لقدْ علِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُحبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، يَزجُرُها بذلك ويُخوِّفُها بالطَّلاقِ، وأنَّه لوْلا مَقامُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لوَقَعَ ذلك، فبَكَتْ حَفْصةُ بُكاءً شَديدًا لِمَا اجتمَعَ عندَها منَ الحُزنِ على فِراقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولِمَا تَتوقَّعُه من شدَّةِ غَضبِ أَبيها عليها، ثُمَّ سألَ عُمرُ ابنتَه رَضيَ اللهُ عنهما عن مكانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ حَفْصةُ رَضيَ اللهُ عنها: «هو في خِزانَتِه في المَشْرُبةِ»، والمَشْرُبةُ: غُرْفةٌ مُرتفِعةٌ يُخزَّنُ فيها الطَّعامُ والشَّرابُ، فدخَلَ عُمرُ فوجَدَ رَباحًا رَضيَ اللهُ عنه خادمَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ»، أي: على العَتَبةِ السُّفْلِيَّةِ للبابِ، «مُدَلٍّ رِجلَيْه»، أي: مادٌّ رِجْليْه ومُرسِلُهما «على نَقيرٍ من خشَبٍ» وهو جِذْعٌ فيه درَجٌ يَصعَدُ به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الغُرْفةِ، ويَنزِلُ به منها كدَرَجةِ السُّلَّمِ، ثُمَّ نادَى عُمرُ على رَباحٍ رَضيَ اللهُ عنهما يُريدُ أنْ يَستأذنَ له في الدُّخولِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنظَرَ رَباحٌ إلى داخِلِ الغُرفةِ، ثمَّ نظَرَ إلى عُمرَ، فلم يَقُلْ شيئًا، وهذا كِنايةٌ عن أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ سَمِعَ صوتَ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه إلَّا أنَّه لم يُبْدِ قَبولًا أو رفضًا لإذْنِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه، فأعادَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه إذْنَه على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرفةِ، ثمَّ نظَرَ إلى عُمرَ فلم يَقُلْ شيئًا، وفي المرَّةِ الثَّالثةِ رفَعَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه صوتَه ليُسمِعَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنادَى: «يا رَباحُ، اسْتأذِنْ لي عِندَكَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجْلِ حَفْصةَ»، أي: مُعتذِرًا عمَّا وقعَتْ فيه حَفْصةُ ومُنتَصِرًا لها، «واللهِ لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَها»، وهذا تَوْضيحٌ لسببِ إذْنِه، وهو مُواساةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإخْراجُه ممَّا هو فيه، وليس فيما يخُصُّ ابنتَه حَفْصةَ رَضيَ اللهُ عنها، فأشارَ رَباحٌ لعُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما برَأسِه بعدَ أنْ أذِنَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَصعَدَ له في مَشرُبَتِه.
فدخَلَ عُمرُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فرَآه «وهو مُضْطَجِعٌ على حَصيرٍ»، أي: نائمٌ بجنْبِه عليه، وفي رِوايةٍ في الصَّحيحَينِ: «وإنَّهُ لَعَلى حَصيرٍ ما بَينَه وبَينَه شيءٌ»، أي: مُضْطَجِعٌ عليه دونَ فَرْشٍ، والحَصيرُ: البِساطُ المَنْسوجُ من جَريدِ النَّخْلِ أو غيرِهِ، فجلَسَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه، فشَدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إزارَه على جِسمِه؛ طَلَبًا لمَزيدٍ مِنَ السَّترِ، والإزارُ: ثَوبٌ يُستعمَلُ في سَتْرِ الجُزءِ السُّفْليِّ منَ الجسَدِ، ولم يكنْ على جَسدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا هذا الإزارُ، «وإذا الحَصيرُ قد أثَّرَ في جنْبِه»، أي: جعَلَ عليه عَلاماتٍ إِثْرَ نَومِه عليه، فنظَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه مُستكشِفًا للغُرفةِ الَّتي يجلِسُ بها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلم يجِدْ فيها إلَّا قَبْضةً -أي: كَوْمةً- من شَعيرٍ تُقَدَّرُ بصاعٍ، والصَّاعُ: أربعةُ أمْدادٍ، والمُدُّ مِقدارُ ما يَملأُ الكَفَّيْنِ، ومِثْلَ ذلك القَدْرِ وجدْتُ «قُرَظًا في ناحيةِ الغُرفةِ»، أي: في جانبٍ من جَوانبِها، وعلى بُعْدٍ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والقَرَظُ قيل: نَوْعٌ مِنَ الشَّجرِ يُدبَغُ به الجُلودُ، «وإذا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ» وهو الجِلْدُ الَّذي لم يتِمَّ دِباغُه، وهذا كلُّه كِنايةٌ عن رَثاثةِ هَيئةِ المكانِ الَّذي كان به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وشِدَّةِ الحالِ الَّتي كان عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
قال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «فابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ»، أي: سالَتْ منها الدُّموعُ؛ شَفَقةً برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسأَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن سببِ بُكائِه، فقال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «يا نبيَّ اللهِ، وما لي لا أَبْكي وهذا الحَصيرُ قد أثَّرَ في جنْبِكَ، وَهذِهِ خِزانتُكَ لا أَرى فيها إلَّا ما أَرى، وذاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرى في الثِّمارِ والأنْهارِ، وأنتَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصفوَتُهُ، وَهذِهِ خِزانتُكَ؟» كُلُّ هذا كِنايةٌ وبيانٌ عمَّا للكفَّارِ من نَعيمٍ مُقارَنةً بالحالِ الَّتي عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُرادُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلِمينَ أَوْلى مِنَ الكفَّارِ بذلك النَّعيمِ، وكِسْرى: هو لَقَبُ مَلِكِ الفُرْسِ، وقَيْصَرُ: هو لَقَبُ مَلِكِ الرُّومِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يا ابنَ الخَطَّابِ، ألَا تَرْضى أنْ تَكونَ لنا الآخِرةُ ولَهمُ الدُّنيا؟» ففسَّرَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك مَنطِقَ نَعيمِ الدُّنيا ونَعيمِ الآخِرةِ؛ وهو أنَّ مِن سُنَّةِ اللهِ في عِبادِه أنْ جعَلَ الكفَّارَ يَنْعَمونَ بالدُّنيا على أنْ يَنعَمَ عِبادُه المؤمنونَ بنَعيمِ الآخِرةِ، معَ المُفارَقةِ فيما بيْنَ النَّعيمَيْنِ، وخُلودِ المؤمِنينَ في نَعيمِ الجنَّةِ وما يُقابِلُه من خُلودِ الكفَّارِ في جَحيمِ النَّارِ، قال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «بَلى» رَضيتُ بذلك يا رسولَ اللهِ، وكان بوَجْهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَلاماتُ الغضَبِ يَلحَظُها عُمرُ مُنذُ دُخولِه، فقال له عُمرُ: «يا رسولَ اللهِ، ما يَشُقُّ عليكَ مِن شأنِ النِّساءِ؟» يُهَوِّنُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُزنَهُ وغضَبَه، والمَعنى: لا يقَعُ عليكَ شيءٌ منَ المشقَّةِ، ولا تَهتَمَّ من شؤونِهنَّ بشيءٍ، «فإنْ كنْتَ طلَّقتَهُنَّ، فإنَّ اللهَ معَكَ، وملائِكتَه، وجِبريلَ» وهو الملَكُ الموكَّلُ بالوَحيِ، «ومِيكائيلَ» وهو الملَكُ الموكَّلُ بالمطَرِ والنَّباتِ، «وأنا، وأبو بَكرٍ، والمؤمنونَ معَكَ» أيضًا بالمُناصَرةِ والمؤازَرةِ في الدَّعوةِ والرِّسالةِ، وأخبَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قلَّ أنْ تَكلَّمَ -وللهِ الحمَدُ على ذلك- بِكلامٍ، إلَّا رَجَا أنْ يَكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولَه الَّذي يقولُ، أي: يَسألُ اللهَ في نفْسِه أنْ يُصدِّقَ بقرآنٍ على صَوابِ نَصيحتِه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأُخبِرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه نزلَتْ آيةُ التَّخييرِ مِصْداقًا لكلامِه معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي الآيةُ الَّتي خَيَّرَ فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نِساءَه بيْنَ أنْ يَبقَيْنَ أزْواجًا له وبيْنَ طَلاقِهِنَّ وتَسْريحِهِنَّ، وهي قولُ اللهِ تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 4، 5]، قيلَ: إنَّ تلك الآياتِ ليس فيها تَخْييرٌ وإنَّ ذِكرَها هنا وَهمٌ، وقد ورَدَ عندَ البُخاريِّ عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه: «اجتمَعَ نساءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الغَيْرةِ عليه، فقُلتُ لهنَّ: عَسى ربُّه إنْ طلَّقكُنَّ أنْ يُبدِلَه أزْواجًا خَيرًا منكُنَّ، فنزَلَتْ هذه الآيةُ»، والصَّوابُ ما ثبَتَ في الصَّحيحَينِ وغيرِهما أنَّ آيةَ التَّخْييرِ هي قولُ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29]، وقيلَ: يَحتمِلُ سُقوطُ الواوِ من قولِه: «آيَةُ التَّخْيِيرِ» وإنَّ الصَّوابَ: «نزَلَتْ هذه الآيةُ وآيةُ التَّخْييرِ».
وأخبَرَ أنَّ عائشةَ وحَفْصةَ رَضيَ اللهُ عنهما كانَتا تَتَعاوَنانِ على سائرِ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكانَتَا حزبًا، وكان من سببِ الإفْراطِ في الغَيْرةِ منهما إفْشاءُ سِرِّه حتَّى اسْتَاءَ وغضِبَ من ذلك، فسأَلَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هل طلَّقَ نِساءَه؟ تأْكيدًا منه لِمَا يُريدُ أنْ يَتثبَّتَ من صِحَّةِ ما يقولُه النَّاسُ في المسجِدِ، فنَفى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طلاقَ نسائِه، فذكَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه له منَ اغْتمامِ النَّاسِ لرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بسببِ ما أُشيعَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طلَّقَ نساءَه، واسْتأذنَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ ينزِلَ إليهم ويُصَحِّحَ لهمُ الخبَرَ، ويُبيِّنَ لهم حَقيقتَه حتَّى يَستَبشِروا، فوافَقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال له: «إنْ شِئْتَ»، أي: إنْ رأيْتَ ذلك وأَرَدْتَ.
وأخبَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمْ يزَلْ يُحدِّثُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى ذهبَتْ عن وجْهِه عَلاماتُ الغضَبِ الَّتي كانت به، وحتَّى ظهَرَتْ أسْنانُه منَ الضَّحِكِ، «وَكانَ من أحسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا»، والثَّغْرُ: الفَمُ ومُقَدَّمُ الأسْنانِ، ثمَّ نزَلَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منَ المَشرُبةِ الَّتي كان يُقيمُ مُعتزلًا فيها، ونزَلَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه يُمْسِكُ بالجِذعِ ويَستَنِدُ عليه، وكان نُزولُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «كأنَّمَا يَمْشي على الأرضِ ما يمسُّهُ بيدِهِ»، أي: لم يَحْتَجْ رسولُ اللهِ إلى الاستِنادِ إلى الجِذْعِ عِندَ نُزولِه لقوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرفةِ تسعةً وعِشرينَ»، أي: إنَّه بَقِيَ يومٌ على اسْتيفاءِ الشَّهرِ لأجْلِ القَسَمِ الَّذي حلَفَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ آلَى على زَوْجاتِه شَهرًا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ الشَّهرَ يَكونُ تِسْعًا وعِشرينَ»، أي: كان ذلك الشَّهْرُ تِسعًا وعِشرينَ، فقامَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه على بابِ المسجِدِ، ونادَى بأعْلى صَوْتِه: «لَم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نِساءَه» مُعلِمًا أصْحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومُخبِرَهم أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُطلِّقْ نساءَه، على عكْسِ ما كانوا يَقولونَ، ونزَلَتْ هذِهِ الآيةُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]؛ وذلك أنَّ النَّاسَ لَمَّا قالوا بطلاقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِنسائِه دونَ أنْ يُخبِرَهم به أحَدٌ، ودونَ تحقُّقٍ منهم أو تثبُّتٍ، عاتَبَهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ في أنَّهم لو ردُّوه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى يكونَ هو مُخبِرَهم بحَقيقةِ الأمْرِ، أو إلى مَنْ يَقدِرُ على اسْتِخراجِ ومَعرفةِ الأمْرِ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على حَقيقتِه، قال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «فَكنْتُ أنا استَنبَطْتُ ذلِكَ الأمْرَ»، أي: تحقَّقْتُ منه وتثبَّتُّ فيه.
«وأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ آيةَ التَّخْييرِ» كما قدَّمْنا، وَقَدْ ذُكِرَ في الصَّحيحَينِ أنَّ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها قالَتْ: فبدَأَ بي أوَّلَ امْرأةٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنِّي ذاكِرٌ لكِ أمْرًا، ولا عليكِ ألَّا تَعْجَلي حتَّى تَسْتَأمِري أبَوَيْكِ، قالَتْ: قد أَعلَمُ أنَّ أَبَوَيَّ لم يَكونَا يأْمُراني بفِراقِكَ» وعندَ البُخاريِّ: «ثُمَّ خيَّرَ نساءَه كلَّهنَّ فقُلْنَ مثلَ ما قالتْ عائشةُ».
وجاءَ في بعضِ الرِّواياتِ في الصَّحيحَينِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اعتزَلَ نِساءَه من أجْلِ ما كان يَشرَبُه من عَسَلٍ عِندَ زَينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، تقولُ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها: «فتَوَاصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أَيَّتَنا دخَلَ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فلْتَقُلْ: إنِّي أَجِدُ مِنكَ ريحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ -والمَغافيرُ: صَمْغٌ حُلْوٌ ولكِنْ له رائحةٌ كَريهةٌ- فدخَلَ على إِحْداهُمَا، فقالَتْ له ذلك، فقال: لا، بَلْ شرِبْتُ عَسلًا عِندَ زَينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، ولَنْ أَعودَ له، فنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، إلى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 1 - 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} [التحريم: 3]؛ لقولِه: بل شرِبْتُ عَسلًا»، وقيلَ: السَّبَبُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد وَطِئَ جارِيَتَه مارِيةَ في بيتِ حَفْصةَ رَضيَ اللهُ عنها، فعَرَفَتْ حَفْصةُ رَضيَ اللهُ عنها، فشَرَطَ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا تُخْبِرَ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، فأفْشَتْ حَفْصةُ رَضيَ اللهُ عنها سِرَّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لعائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، وقيلَ: السَّبَبُ مجموعُ ما كان مِنهُنَّ من إغْضابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وليس حَدَثًا بعَيْنِه.
وفي الحَديثِ: حُسنُ خُلقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَبسُّمُه؛ إكْرامًا لِمَن يَتبسَّمُ إليه.
وفيه: مَنقَبةٌ ظاهرةٌ لعُمرَ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: مَوْعظةُ الرَّجُلِ ابنتَه، وإصْلاحُ خُلقِها معَ زَوجِها.
وفيه: أنَّ شِدَّةَ الوَطْأةِ على النِّساءِ مَذْمومةٌ.
وفيه: الحَثُّ على إيثارِ نَعيمِ الآخِرةِ بعملِ الطَّاعاتِ والبُعْدِ عنِ المعاصي، وعَدَمِ الاشتِغالِ بطَلَبِ نعيمِ الدُّنيا.