الموسوعة الحديثية


- كَتَبْتُ إلى ابْنِ عبَّاسٍ أسْأَلُهُ أنْ يَكْتُبَ لي كِتابًا، ويُخْفِي عَنِّي، فقالَ: ولَدٌ ناصِحٌ أنا أخْتارُ له الأُمُورَ اخْتِيارًا، وأُخْفِي عنْه، قالَ: فَدَعا بقَضاءِ عَلِيٍّ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ منه أشْياءَ، ويَمُرُّ به الشَّيْءُ، فيَقولُ: واللَّهِ ما قَضَى بهذا عَلِيٌّ إلَّا أنْ يَكونَ ضَلَّ.
الراوي : عبدالله بن أبي مليكة | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم | الصفحة أو الرقم : 7 | خلاصة حكم المحدث : [أورده مسلم في مقدمة الصحيح]
كانَ الصَّحابَةُ رَضيَ اللهُ عَنهم يَحفَظونَ حَديثَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويُؤدُّونه دونَ زيادةٍ ولا نَقصٍ، وبَعدَ ظُهورِ الفِتَنِ وقَعَ الكَذِبُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعلى أصحابِه رَضيَ اللهُ عَنهم، وجاء النَّاسُ بعدَ ذلك فجَمَعوا ما تَفرَّقَ من سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولكنَّ بعضَهم كانَ يَجمَعُ دونَ تَمييزٍ.
وفي هذا الأثرِ يُخبِرُ التَّابعيُّ عبدُ اللهِ بنُ عُبَيدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيكةَ أنَّه كَتَبَ إلى عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما رسالةً يَطلُبُ فيها: أن يَكتُبَ له فيها منَ الأحكامِ والآثارِ الصَّحيحةِ ما يَراه خيرًا له، ويَرى أنَّه يَنفعُه، «ويُخفي عنِّي»، وقد ورَدَ لفظُ "يُخفي" بالخاء المُعجَمة، وبالحاءِ المُهمَلة "يُحفي"، واختُلِفَ في ضبطِه، فَعَلى أنَّه بالحاءِ المُهمَلةِ، فهو من أحفَى، أي: أنقَصَ، ويكونُ المعنى: أنَّه طلَبَ مِن ابنِ عبَّاسٍ أن يُمسِكَ عنه كثرةَ الحديثِ ويُوجِزَ له، أو يكونُ الإحفاءُ منَ الإلحاحِ أوِ الاستقصاءِ، أيِ: استَقصِ ما تُحدِّثُني وقُل فيه كلَّ ما عِندَك. وقيلَ: هو بمَعنَى المُبالَغةِ في البِرِّ به، والنَّصيحةِ له، كقَولِه تَعالَى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، أي: بارًّا. وعلى أنَّه بالخاءِ المُعجَمةِ «يُخْفِي عَنِّي- وأُخْفِي عَنْه»، فالمعنى: طلبتُ منه أن يَكتُمَ عنِّي أشياءَ ولا يَكتُبَها إذا كانَ عليه فيها مَقالٌ منَ الشِّيَعِ المُختلِفةِ وأهلِ الفِتنِ؛ فإنَّه إذا كَتَبَها ظهَرَت، وإذا ظَهرَت خُولِفَ فيها وحَصَلَ فيها قيلَ وقالَ، مع أنَّها لَيسَت ممَّا يَلزمُ بيانُها لابنِ أبي مُلَيكةَ، وإن لَزِمَ فيُمكِنُ بالمُشافَهةِ دُونَ المُكاتَبةِ، ولفظُ الخاءِ هو الرَّاجِحُ عندَ الشُّرَّاحِ، وقولُ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «ولدٌ ناصحٌ»، أي: إنَّه ولدٌ يَطلُبُ النُّصحَ لنفسِه ولدينِه.
وقالَ ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: «أنا أختارُ له الأمورَ اختيارًا وأُخْفِي عنه»، أي: أختارُ له النَّافعَ وأُخفي عنه ما لا نَفعَ فيه، أو «أُحفي له»، أي: أستقصي له كلَّ ما يَنفَعُه عِندي، أو أختصِرُ له ما يُريدُه، على الاختلافِ السَّابِقِ في اللَّفظَينِ.
فطلَبَ ابنُ عبَّاسٍ كِتابًا فيه أقضيةٌ وأحكامٌ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، فمَسَحَ ابنُ عبَّاسٍ المكتوبَ في الكِتابِ؛ لأنَّه كَذِبٌ على عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وكانَ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه من أعلَمِ الصَّحابَةِ بالأحكامِ والسُّنَنِ، وربَّما كانَ في كتابِ عليٍّ رَضي اللهُ عنه مُخالَفةٌ لِتَلك الأحكامِ المُتواترةِ الظَّاهرةِ، فجَعَلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما «يَكْتُبُ منه أشياءَ، ويَمُرُّ به الشِّيءُ، فيقولُ: واللهِ ما قَضَى بهذا عَلِيٌّ، إلَّا أنْ يَكونَ ضَلَّ» أي: إنَّه لم يُصدِّقْ أنَّ ما في الكتابِ مَنسوبٌ إلى عليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، بل إنَّه يُؤكِّدُ أنَّه مَكذوبٌ عليه؛ لأنَّ عليًّا رَضيَ اللهُ عنه مُؤمِنٌ مُصدِّقٌ بما ورَدَ عنِ اللهِ تَعالَى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا يُمكِنُ أن يكونَ قد قضَى وحكَمَ بأحكامٍ فيها ضَلالٌ وبُعدٌ عن مَنهجِ اللهِ تَعالَى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. والمَعنى: أنَّه لا يَقضي به إلَّا ضالٌّ، وعليٌّ رَضيَ اللهُ عنه غيرُ ضالٍّ؛ فلا يَصِحُّ أن يَكُونَ قَضَى به، لا أنَّه حَكَمَ بضلالِه؛ فإن صحَّ أنَّه قَضَى به، فحينَها يَكونُ الضَّلالُ هنا بمَعنى الخطأِ، كنَحوِ قولِ اللهِ تَعالَى على لسانِ نبيِّه مُوسى عليه السَّلامُ: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20].
وفي أثَرٍ آخَرَ عندَ مُسلِمٍ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ «مَحَا كلَّ ما في الكِتابِ إلَّا قَدْرَ، وأَشارَ سُفيانُ بنُ عُيَيْنةَ بذِراعِهِ»، أي: إلَّا قَدرًا يَسيرًا تَرَكَه مَكتوبًا؛ لعِلمِه أنَّه يُوافِقُ الحَقَّ. وقد رَوَى مُسلِمٌ في مُقدِّمةِ الصَّحيحِ عن أبي إسحاقَ السَّبيعيِّ قالَ: «لَمَّا أَحْدَثوا تلك الأشياءَ بَعْدَ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قالَ رَجُلٌ من أصحابِ عليٍّ: قاتَلَهُمُ اللهُ، أيَّ عِلْمٍ أَفْسَدوا!»، وفي هذا إشارةٌ إلى ما أدخلَتْه الرَّوافِضُ والشِّيعَةُ في عِلمِ عليٍّ رَضيَ اللهُ عَنه وحَديثِهِ، وتَقوَّلوه عليه منَ الأباطيلِ.
وفي الحديثِ: بيانُ ما كانَ عليه السَّلفُ منَ الحِرصِ في طلبِ العِلمِ، حيثُ إنَّهم إذا لم يَستطيعوا الحُضورَ عندَ العالِمِ أخَذُوا منه بالمُكاتَبةِ.
وفيه: بيانُ فضلِ عليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، حيثُ كانَ مَعروفًا بالقضاءِ حتَّى اعتمدَ عليه بحرُ الأمَّةِ وحبرُها ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما.
وفيه: أنَّه لا يَنبغي لطالِبِ العِلمِ -وإن كانَ شديدَ الحِرصِ على العِلمِ- أن يَطلُبَ ما يَترتَّبُ عليه ضررٌ له، أو لغَيرِه منَ المُسلِمينَ، وكذا لا يَنبغي للعالِمِ أن يُحدِّثَه به، أو يَكتُبَ به إليه.