لمَّا هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَدينةِ واستَقَرَّ فيها بَنى دَولةَ الإسلامِ، وبَنى المَسجِدَ وآخى بَينَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وبَدَأت حَياةُ الكِفاحِ والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، فكانت غَزوةُ بَدرٍ في السَّنةِ الثَّانيةِ للهِجرةِ، وانتَصَرَ فيها المُسلِمونَ انتصارًا عظيمًا سَمَّاه اللَّهُ تعالى بيَومِ الفُرقانِ، وأذَلَّ اللَّهُ فيه كُفَّارَ قُرَيشٍ وقَتَل صَناديدَهم، فأرادَ كُفَّارُ قُرَيشٍ أن يَثأروا لزُعَمائِهم، فكانت غَزوةُ أُحُدٍ في السَّنةِ الثَّالثةِ، ومِمَّا جاءَ في أحداثِ غَزوةِ أُحُدٍ ما جاءَ في هذا الحَديثِ؛ حَيثُ يَقولُ الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عنه: واللهِ إنَّ النُّعاسَ ليَغشاني، أي: يَنزِلُ عليَّ؛ فقد ألقى اللهُ عليهمُ النَّومَ حتَّى يَذهَبَ عنهمُ الخَوفُ والفزَعُ، ويَحصُلَ لهمُ الأمنُ، إذ سَمِعتُ ابنَ قُشَيرٍ وهو مُعَتِّبُ بنُ قُشَيرٍ، وهو مِمَّن شَهِدَ بَيعةَ العَقَبةِ وغَزوةَ بَدرٍ، وقيل: إنَّه كان مُنافِقًا، وقيل: إنَّه تابَ، يَقولُها، أي: سَمِعَ الزُّبَيرُ كَلامَ مُعَتِّبٍ، وهو قَولُه: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}
[آل عمران: 154] كَما جاءَ مُبَيَّنًا في الرِّوايةِ الأُخرى، وما أسمَعُها مِنه إلَّا كالحُلمِ، أي: أسمَعُ كَلامَ مُعَتِّبٍ، وكَأنَّه مِثلُ الحُلمِ، مِن شِدَّةِ النَّومِ الذي علينا، ثُمَّ قَرَأ الزُّبَيرُ قَولَه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} أي: انهَزَموا وفرُّوا مِنَ المَعرَكةِ مِنَ المُسلِمينَ {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي: جَمعُ المُسلِمينَ وجَمعُ المُشرِكينَ يَومَ أُحُدٍ، وكان قدِ انهَزَمَ أكثَرُ المُسلِمينَ، ولم يَبقَ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا القَليلُ، {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} أي: طَلَبَ زَلَّتَهم، وقيل: حَمَلهم على الزَّلَّةِ، وهيَ الخَطيئةُ {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} أي: ببَعضِ ذُنوبهمُ السَّالفةِ، أو هو قَبولُهم مِنَ الشَّيطانِ ما وسوسَ إليهم مِنَ الهَزيمةِ، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} أي: أنَّ اللَّهَ عَفا عن كُلِّ مَن فرَّ في غَزوةِ أُحُدٍ، فلا عَتبَ عليهم بَعدَ ذلك، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
[آل عمران: 155] أي: يَغفِرُ الذَّنبَ ويَحلُمُ عن خَلقِه، ويَتَجاوزُ عنهم. وإلى هنا انتَهى كَلامُ الزُّبَيرِ. وما بَعدَه هو مِن كَلامِ ابنِ إسحاقَ إمامِ السِّيَرِ والمَغازي: والذينَ تَولَّوا عِندَ جَولةِ النَّاسِ، أي: الذينَ فرُّوا عِندَ قِتالِ النَّاسِ، هم: عُثمانُ بنُ عَفَّانَ، وسَعيدُ بنُ عُثمانَ الزُّرقيُّ، وأخوه عُقبةُ بنُ عُثمانَ، حتَّى بَلَغوا جَبَلًا بناحيةِ المَدينةِ، أي: فرُّوا حتَّى وصَلوا إلى هذا الجَبَلِ الذي يُقالُ له: الجَلعَبُ، وهو جَبَلٌ بالمَدينةِ ببَطنِ الأعوَصِ، والأعوصُ: وادٍ على بُعدِ أميالٍ مِنَ المَدينةِ يَسيرةٍ، وفيه مَطارُ المَدينةِ اليَومَ. وهو يَقَعُ شَمالَ شَرقيِّ المَدينةِ على 17 كَيلًا، فأقاموا به ثَلاثًا، أي: ظَلُّوا في هذا المَكانِ ثَلاثةَ أيَّامٍ ولم يَدخُلوا المَدينةَ، فزَعَمَ الذينَ فرُّوا أنَّهم لمَّا رَجَعوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: لمَّا جاؤوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لهم رَسولُ اللهِ: لقد ذَهَبتُم فيها، أي: الهَزيمةِ، عَريضةً، أي: مَكانًا بَعيدًا، واللَّهُ أعلمُ. ثُمَّ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} والمَقصودُ بهم: المُنافِقونَ عَبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ وأصحابُه، حينَ قالوا لإخوانِهم، أي: إخوانِهم في النِّفاقِ والكُفرِ {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ}، أي: سافروا فيها لتِجارةٍ أو غَيرِها {أَوْ كَانُوا غُزًّى} أي: خَرَجوا غازينَ في سَبيلِ اللهِ فقُتِلوا {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا} أي: لو أقاموا في المَدينةِ ولم يَخرُجوا للغَزوِ {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} أي: ما ماتوا في السَّفَرِ ولا قُتِلوا في الغَزوِ {لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ} أي: قَولَهم وظَنَّهم {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} قال: ابتِغاءً وتَحَسُّرًا، أي: حتَّى يُصيبَهمُ النَّدَمُ والغَمُّ لكَونِهم خَرَجوا، وذلك لا يُغني عنهم شَيئًا، أي: هذا التَّحَسُّرُ والنَّدَمُ لا يَنفعُهم. يَقولُ ابنُ إسحاقَ: ثُمَّ كانتِ القِصَّةُ فيما يَأمُرُ به نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَعهَدُ إليه، حتَّى انتَهى إلى قَولِه، أي: قَرأ الآياتِ السَّابقةَ وما بَعدَها حتَّى وصَل إلى قَولِه تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي: ما حَصَل لكُم يَومَ أُحُدٍ {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} أي: يَومَ بَدرٍ؛ وذلك أنَّ المُشرِكينَ قَتَلوا مِنَ المُسلمينَ يَومَ أُحُدٍ سَبعينَ، وقَتَل المُسلِمونَ مِنهم ببَدرٍ سَبعينَ وأسَروا سَبعينَ {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} أي: مِن أينَ لنا هذا القَتلُ والهَزيمةُ ونَحنُ مُسلمونَ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فينا؟! {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي: بسَبَبِ عِصيانِكُم وبسَبَبِ المُخالفةِ التي كانت مِنَ الرُّماةِ حَيثُ عَصَوا أمرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَلزَموا أماكِنَهم، فخالفوا ذلك فوقَعَتِ الهَزيمةُ، ثُمَّ قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي: بأُحُدٍ مِنَ القَتلِ والجَرحِ والهَزيمةِ {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بقَضائِه وقدَرِه، وله الحِكمةُ في ذلك، {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: يَعلَمَ عَلانيةَ أمرِهم ويُظهِرَ أمرَهم ويُمَيِّزَهم، ويَعلمَ الذينَ صَبَروا وثَبَتوا ولم يتزَلزَلوا {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} أي: ويُظهِرَ أمرَ المُنافِقينَ، فيَكونَ أمرُهم عَلانيةً، كعَبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ بنِ سَلولَ ومَن كان مَعَه مِمَّن رَجَعَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ سارَ إلى عَدوِّه؛ وذلك أنَّ ابنَ سَلولَ وأصحابَه خَرَجوا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا كانوا ببَعضِ الطَّريقِ رَجَعَ ابنُ سَلولَ بمَن مَعَه، وهم ثُلُثُ الجَيشِ. {وَقِيلَ لَهُمْ} أي: للمُنافِقينَ {تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: لأجلِ دينِ اللهِ وطاعَتِه {أَوِ ادْفَعُوا} أي: عن أهلِكُم وحَريمِكُم، أو كَثِّروا سَوادَ المُسلِمينَ ورابِطوا إن لم تُقاتِلوا، يَكونُ ذلك دَفعًا وقَمعًا للعَدوِّ، {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} وذلك أنَّهم قالوا حينَ قال لهم أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهم سائِرونَ إلى أحُدٍ حينَ انصَرَفوا عنهم: أتَخذُلونَنا وتُسلِمونَنا لعَدوِّنا؟ فقال المُنافِقونَ: ما نَرى أن يَكونَ قِتالًا، أي: لا نَتَوقَّعُ أن سَيَكونُ هناكَ قِتالٌ، ولو نَرى أن يَكونَ قِتالًا لاتَّبَعناكُم، أي: لسِرْنا مَعَكُم، ثُمَّ قال تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}، أي: المُنافِقونَ أقرَبُ للكُفرِ مِنَ الإيمانِ {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} أي: يُظهِرونَ الإيمانَ ويُبطِنونَ الكُفرَ، أو أنَّهم يَقولونَ القَولَ ولا يَعتَقِدونَ صِحَّتَه {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} أي: إخوانِهم مِن ذَوي أرحامِهم، وهم شُهَداءُ أحُدٍ، وليسَ إخوانَهم في الدِّينِ {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} أي: لو سَمِعوا مِن مَشورَتِنا عليهم في القُعودِ وعَدَمِ الخُروجِ ما قُتِلوا مَعَ مَن قُتِل. قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، أي: إن كان القُعودُ يَسلَمُ به الشَّخصُ مِنَ القَتلِ والمَوتِ فيَنبَغي ألَّا تَموتوا، والمَوتُ لا بُدَّ آتٍ إليكُم ولو كُنتُم في بُيوتِكُم، فادفَعوا عن أنفُسِكُمُ المَوتَ إن كُنتُم صادِقينَ؛ فإنَّ الحَذَرَ لا يُغني مِنَ القَدَرِ.
وفي الحَديثِ وُقوعُ النُّعاسِ على المُسلمينَ في غَزوةِ أُحُدٍ.
وفيه بَيانُ عَفوِ اللهِ تعالى على مَن فرَّ مِن غَزوةِ أُحُدٍ.
وفيه بَيانُ بَعضِ مَن فرَّ مِن غَزوةِ أُحُدٍ.
وفيه بَيانُ خَطَرِ المُنافِقينَ في تخذيلِهم المُؤمِنينَ وزَعزَعةِ صُفوفِهم.
وفيه أنَّ ما أصابَ المُسلِمينَ مِنَ الهَزيمةِ يَومَ أُحُدٍ هو بسَبَبِ عِصيانِهم أمرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه بَيانُ الحِكمةِ مِن وُقوعِ الهَزيمةِ للمُسلِمينَ يَومَ أُحُدٍ.
وفيه أنَّ الأجَلَ والمَوتَ إذا نَزَل فلا أحَدَ يَستَطيعُ أن يَدفَعَه، سَواءٌ خَرَجَ في قِتالٍ أو قَعَدَ في مَكانِه .