أرسَلَ اللهُ أنبياءَه ورُسُلَه -صَلَواتُ اللهِ عليهم- لِغايةٍ عَظيمةٍ، وهيَ دَعوةُ النَّاسِ إلى تَوحيدِ اللهِ تعالى، وتَعليمُهم طَريقَ الوُصولِ إلى اللهِ والدَّارِ الآخِرةِ، ولَم يُرسِلْهم لِكَي يَكنِزوا المالَ أو يَجمَعوا حُطامَ الدُّنيا الفانيةِ، وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نَحنُ -مَعاشِرَ الأنبياءِ- لا نورَثُ، ما تَرَكناه صَدَقةٌ. وكانت أموالُ بَني النَّضيرِ مِمَّا أفاءَ اللَّهُ على رَسولِه؛ ولهذا لمَّا توُفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَ بَعضُ أقارِبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَطلُبُ ميراثَه، فأخبَرَهم أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يورَثُ، وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ الزُّهريُّ -وهو أحَدُ الأئِمَّةِ المُحَدِّثينَ، واسمُه مُحَمَّدُ بنُ مُسلِمٍ- أنَّ مالِكَ بنَ أوسٍ، وهو أحَدُ التَّابِعينَ، وقيلَ: إنَّه مِمَّن رَأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حَدَّثَه، أي: أخبَرَه بهذا الحَديثِ، فقال لَه: أرسَلَ إليَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، أي: بَعَثَ عُمَرُ مُناديًا يُنادي مالِكَ بنَ أوسٍ، فجِئتُه حينَ تعالى النَّهارُ، أي: ارتَفعَ النَّهارُ وامتَدَّ، وقيلَ: هو ما قَبلَ الزَّوالِ. يَقولُ مالِكٌ: فوجَدتُه، أي: عُمَرَ، في بَيتِه جالِسًا على سَريرٍ مُفضيًا إلى رِمالِه. الرِّمالُ: هو ما يُنسَجُ مِن سَعَفِ النَّخلِ ونَحوِه ليُضطَجَعَ عليه، والإفضاءُ إلى الشَّيءِ لا يَكونُ بِحائِلٍ، أي: ليس بَينَه وبَينَ رِمالِه فِراشٌ. وإنَّما قال هذا؛ لِأنَّ العادةَ أن يَكونَ فوقَ الرِّمالِ فِراشٌ أو غَيرُه، مُتَّكِئًا، أي: مُعتَمِدًا على وِسادةٍ، أي: مِخَدَّةٍ، مَن أَدَمٍ، أي: جِلدٍ مَدبوغٍ. فقال عُمرُ لِمالِكٍ: يا مالُ -وهو تَرخيمُ مالِكٍ بِحَذفِ الكافِ. والتَّرخيمُ: هو عِبارةٌ عن حَذفِ آخِرِ الحَرفِ مِنَ الِاسمِ عِندَ النِّداءِ- إنَّه قد دَفَّ -الدَّفُّ: المَشيُ بِسُرعةٍ، كَأنَّهم جاؤوا مُسرِعينَ لِلضُّرِّ الذي نَزَلَ بِهم، وقيلَ: السَّيرُ اليَسيرُ، والمَعنى: أنَّه وَرَد جَماعةٌ بِأهليهم شَيئًا بَعدَ شَيءٍ يَسيرونَ قَليلًا قَليلًا، وكَأنَّهم كانوا قد أصابَهم جَدبٌ في بِلادِهم، فانتَقَلوا إلى المَدينةِ- أهلُ أبياتٍ مِن قَومِك، أي: مِن عَشيرةِ وقَبيلةِ مالِكٍ، وقد أمَرتُ فيهم برَضْخٍ. الرَّضخُ: العَطيَّةُ القَليلةُ، أي: قد أمَرتُ أن يُعطَوا عَطيَّةً حتَّى يَستَعينوا بِها، فخُذْه فاقسِمْه بَينَهم، أي: تَولَّ يا مالِكُ قِسمةَ هذا الرَّضْخِ في قَومِك. فقال مالِكٌ: لَو أمَرتَ بهذا غَيري؟ أي: لَو ولَّيتَ قَسْمَ هذا الرَّضخِ رَجُلًا غَيري لَكان أحسَنَ، وإنَّما قاله تَحَرُّجًا مِن قَبولِ الأمانةِ. فقال عُمَرُ: خُذْه يا مالُ، أي: أنتَ مُلزَمٌ بِقِسمَتِه. وبَينَما مالِكٌ عِندَ عُمَرَ جالِسٌ عِندَه، جاءَ يَرْفَا. وهو حاجِبُ عُمَرَ، فقال: هل لَك يا أميرَ المُؤمِنينَ في عُثمانَ بنِ عَفَّانَ، وعَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ، والزُّبَيرِ وسَعدٍ؟ أي: هل لَك إذنٌ فيهم ورَغبةٌ في دُخولِهم، فهم عِندَ البابِ يَنتَظِرونَ أن يُؤذَنَ لَهم؟ فقال عُمَرُ: نَعَم، أي: لي رَغبةٌ في دُخولِهم، فأَذِنَ لَهم فدَخَلوا، أي: أَذِنَ لَهم عُمَرُ بِالدُّخولِ فدَخَلوا. ثُمَّ جاءَ يَرْفَا مَرَّةً أُخرى، فقال: هل لَك في عبَّاسٍ وعَليٍّ؟ أي: هل تَأذَنُ لَهم يا أميرَ المُؤمِنينَ بِالدُّخولِ، فهم عِندَ البابِ يَنتَظِرونَ أن يُؤذَنَ لَهم. فقال عُمَرُ: نَعَم، أي: لي رَغبةٌ في دُخولِهما علَيَّ، فأَذِنَ لَهما، أي: أذِنَ لَهما عُمَرُ بِالدُّخولِ فدَخَلا. وإنَّما جاءَ العَبَّاسُ وعَليٌّ يَختَصِمانِ فيما أفاءَ اللَّهُ على رَسولِه مِن مالِ بَني النَّضيرِ. فقال العَبَّاسُ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، اقضِ، أي: احكُمْ، بَيني وبَينَ هذا الكاذِبِ! أي: في ادِّعائِه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَعَلَ هذه الأموالَ لِفاطِمةَ في حَياتِه، بِكَذِبِه في ذلك، الغادِرِ بغَلَبَتِه عَلَيَّ في هذه الأموالِ، الخائِنِ لي بِمَنعِه إيَّايَ مِن ميراثِ ابنِ أخي! وهذه الألفاظُ التي وقَعَت لا يَليقُ ظاهِرُها بالعَبَّاسِ، وحاشا لعَليٍّ أن يَكونَ فيه بَعضُ هذه الأوصافِ فَضلًا عن كُلِّها، والواجِبُ حُسنُ الظَّنِّ بِالصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ، ونَفيُ كُلِّ رَذيلةٍ عنهم، وأجوَدُ ما حُمِلَ عليه كَلامُ العَبَّاسِ أنَّ هذا صَدَرَ مِنه على جِهةِ الإدلالِ على ابنِ أخيه؛ لِأنَّه بِمَنزِلةِ ابنِه، وقال ما لا يَعتَقِدُه وما يَعلَمُ بَراءةَ ذِمَّةِ ابنِ أخيه مِنه، ولَعَلَّه قَصَدَ بِذلك رَدعَه عَمَّا يَعتَقِدُ أنَّه مُخطِئٌ فيه، وأنَّ هذه الأوصافَ يَتَّصِفُ بِها لَو كان يَفعَلُ ما يَفعَلُه عن قَصدٍ، وأنَّ عَليًّا كان لا يَراها إلَّا موجِبةً لِذلك في اعتِقادِه. فقال القَومُ، أي: عُثمانُ ومَن دَخَلَ مَعَه، أجَلْ يا أميرَ المُؤمِنينَ، فاقضِ بَينَهم وأرِحْهم، أي: اجعَلْهم في راحةٍ عَمَّا هم فيه مِنَ التَّخاصُمِ، والمَعنى: أرِحْ كُلًّا مِنهما مِن مُخاصَمةِ الآخَرِ. يَقولُ مالِكُ بنُ أوسٍ: يُخَيَّلُ إليَّ أنَّهم قد كانوا قدَّموهم لِذلك، أي: أظُنُّ وأتَوقَّعُ أنَّ العَبَّاسَ وعَليًّا طَلَبوا مِنَ القَومِ الحاضِرينَ يَعني عُثمانَ ومَن مَعَه تَقدُّمَهم عليهما إلى مَجلِسِ عُمَرَ لِكَي يَشفَعوا لَهما عِندَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه حتَّى يَقضيَ بَينَهما. فقال عُمَرُ لِلعَبَّاسِ وعَليٍّ: اتَّئِدا. وهو أمرٌ بِالتُّؤَدةِ: وهو التَّأنِّي والتَّثَبُّتُ وعَدَمُ العَجَلةِ، أي: اصبِرا وأمهِلا لي مُهلةً أتكَلَّمُ فيها ولا تَعجَلا عليَّ في الكَلامِ. ثُمَّ قال عُمَرُ مُخاطِبًا لِلقَومِ الحاضِرينَ مِن عُثمانَ ومَن مَعَه: أنشُدُكُم بِاللهِ -أي: أستَحلِفُكُم وأسألُكُم بِاللهِ، مَأخوذٌ مِنَ النَّشيدِ، وهو رَفعُ الصَّوتِ- الذي بِإذنِه تَقومُ السَّماءُ، أي: بِغَيرِ عَمَدِ، والأرضُ، أي: تَستَقِرُّ بِغَيرِ وتَدٍ، أتعلَمونَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لا نورَثُ، أي: لا تُقسَمُ تَرِكَتُنا بَينَ أقارِبِنا، ما تَرَكْنا صَدَقةٌ، أي: يَكونُ في مَصالِحِ المُسلِمينَ، فهَل سَمِعتُمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك؟ فقال القَومُ: نَعَم، أي: عَلِمنا ذلك. ثُمَّ أقبَلَ على العَبَّاسِ وعَليٍّ، أي: توجَّه عُمَرُ إلى العَبَّاسِ وعَليٍّ يُخاطِبُهما، فقال: أنشُدُكُما بِاللهِ الذي بِإذنِه تَقومُ السَّماءُ والأرضُ، أتعلَمانِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لا نورَثُ، ما تَرَكناه صَدَقةٌ؟ فقال العَبَّاسُ وعَليٌّ: نَعَم، أي: قد عَلِمنا ذلك. ثُمَّ قال عُمَرُ لَهما: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ كان خَصَّ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِخاصَّةٍ لَم يُخَصِّصْ بِها أحَدًا غَيرَه، أي: أعطاه خُصوصيَّةً تَخُصُّه هو دونَ سائِرِ النَّاسِ، وهيَ قَولُه تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}
[الحشر: 7] . والفَيءُ: هو ما أصابَه المُسلِمونَ مِن أموالِ الكُفَّارِ بِغَيرِ قِتالٍ، بِأن صالَحوهم على مالٍ يُؤَدُّونَه. يَقولُ مالِكٌ: ما أدري هل قَرَأ الآيةَ التي قَبلَها أم لا، أي: لا أعلَمُ هل قَرَأ عُمَرُ الآيةَ التي قَبلَ هذه الآيةِ، وهيَ قَولُه: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[الحشر: 6] . يَقولُ عُمَرُ: فقَسَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَكُم، أي: بَينَ أقارِبِه -ومِنهمُ العَبَّاسُ وعَليٌّ- أموالَ بَني النَّضيرِ، أي: المالَ الذي غَنِمَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن غَزوةِ بني النَّضيرِ؛ وذلك أنَّ هذه الغَزوةَ لَم يَكُنْ فيها قِتالٌ، وإنَّما أفاءَ اللَّهُ به على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فواللهِ ما استَأثَرَ عليكُم، أي: ما استَبَدَّ وانفرَدَ بِها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحدَه، بَل كان لَكُم مِنها نَصيبٌ، ولا أخَذَها دونَكُم، أي: ما أخَذَ ذلك المالَ ولَم يُعطِكُم. والمَعنى: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما فضَّلَ نَفسَه الكَريمةَ عليكُم في نَصيبِه مِنَ الفيءِ، وإنَّما أنفقَه عليكُم. حتَّى بَقيَ هذا المالُ، أي: الذي تَنازَعتُما فيه، يَعني المالَ الذي وقَعَت فيه الخُصومةُ بَينَ عَليٍّ والعَبَّاسِ، فكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأخُذُ مِنه نَفَقةَ سَنةٍ، أي: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأخُذُ مِن هذا المالِ نَفَقةَ سَنةٍ لَه ولِأهلِه. ثُمَّ يَجعَلُ ما بَقيَ أُسوةَ المالِ، أي: قُدوةَ المالِ الذي يُصرَفُ في مَصالِحِ المُسلِمينَ وتَبَعًا لَه، يَعني مالًا مُشتَرَكًا يُصرَفُ في حَوائِجِ العامَّةِ. ثُمَّ قال عُمَرُ مَرَّةً أُخرى لِلقَومِ الذينَ عِندَه: أنشُدُكُم بِاللهِ، أي: أستَحلِفُكُم وأسألُكُم بِاللهِ، الذي بِإذنِه تَقومُ السَّماءُ والأرضُ، أتعلَمونَ ذلك؟ أي: هل تَعلَمونَ هذا الكَلامَ، وأنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَأخُذُ مِنَ الأرضِ نَفَقةَ سَنةٍ، ثُمَّ يَجعَلُ ما بَقيَ أُسوةَ المالِ يُصرَفُ في مَصالِحِ المُسلِمينَ؟ فقال القَومُ: نَعَم، أي: قد عَلِمنا ذلك. ثُمَّ نَشَدَ عبَّاسًا وعَليًّا، أي: استَحلَف عُمَرُ العَبَّاسَ وعَليًّا بِمِثلِ ما نَشَدَ به القَومَ، أتَعلَمانِ ذلك؟ أي: بِنَفسِ ما قاله لِلقَومِ. فقال العَبَّاسُ وعَليٌّ: نَعَمَ، أي: نَعلَمُ ذلك. قال عُمَرُ: فلَمَّا توُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال أبو بَكرٍ: أنا وليُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: خَليفةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأتَولَّى ما كان يَعمَلُه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أقومُ بِما كان يَقومُ بِه. فجِئتُما -أي: أنتُما العَبَّاسُ وعَليٌّ- تَطلُبُ ميراثَك مِنِ ابنِ أخيك، أي: ميراثَك مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالعَبَّاسُ هو عَمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَطلُبُ هذا، أي: عليٌّ، ميراثَ امرَأتِه، أي: فاطِمةَ، مِن أبيها، أي: النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال أبو بَكرٍ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما نورَثُ، ما تَرَكنا صَدَقةٌ، أي: لمَّا طَلَبتُمُا الميراثَ مِن أبي بَكرٍ لَم يُعطِكُما أبو بَكرٍ شَيئًا، وقال لَكُما: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّه لا يورَثُ، وما تَرَكَه فهو صَدَقةٌ. فرَأيتُماه، أي: فظَنَنتُما أنتُما أبا بَكرٍ كاذِبًا فيما يَقولُ، آثِمًا بِامتِناعِه مِن دَفعِه إليكُما، غادِرًا لَكُما بِأخذِه ذلك المالَ، خائِنًا بِإمساكِه في يَدِه! واللهُ، أي: والحالُ أنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى، يَعلَمُ إنَّه -أي: أبا بَكرٍ- لصادِقٌ فيما يَقولُ، بارٌّ، أي: فاعِلٌ لِلبِرِّ بِرِعايةِ ذلك المالِ، راشِدٌ، أي: موافِقٌ لِلرُّشدِ في عَمَلِه، تابِعٌ لِلحَقِّ في عَمَلِه في ذلك المالِ وغَيرِه. ثُمَّ توُفِّيَ أبو بَكرٍ، وأنا وليُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووَليُّ أبي بَكرٍ، أي: أصبَحتُ بَعدَ وفاةِ أبي بَكرٍ أنا القائِمَ على ما كان يَقومُ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ. فرَأيتُماني كاذِبًا آثِمًا غادِرًا خائِنًا! واللَّهُ يَعلَمُ إنِّي لِصادِقٌ بارٌّ راشِدٌ تابِعٌ لِلحَقِّ، فوَلِيتُها، أي: فتَولَّيتُ رِعايةَ هذه الأموالِ التي تَطلُبانِ قِسمَتَها. ثُمَّ جِئتَني أنتَ، أي: العَبَّاسُ، وهذا، أي: عَليٌّ، وأنتُما جَميعٌ، أي: وكِلاكُما مُتَّفِقٌ ليس بَينَكُما خِلافٌ، وأمرُكُما واحِدٌ، أي: مَطلَبُكُما واحِدٌ، وهو أن أدفعَ هذه الأموالَ التي تَرَكَها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَكُما. فقُلتُما لي: ادفَعْها إلينا، أي: ادفَعْ تلك الأرضَ واجعَلْ وِلايَتها لَنا نُقَسِّمُها نَحنُ. فقُلتُ لَكُما: إن شِئتُم دَفعتُها إليكُما، أي: إن أحبَبتُما أن أولِّيَها لَكُما، على أنَّ عليكُما عَهدَ اللهِ، أي: ميثاقَه، أن تَعمَلا فيها، أي: في هذه الأموالِ، بِالذي كان يَعمَلُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: بِمِثلِ ما كان يَعمَلُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُصَرِّفُها مِثلَ سائِر الأموالِ، فأخَذتُماها بِذلك، أي: فوافقتُما على ذلك الأمرِ فدَفعتُها لَكُما؛ لِتَقوما عليها، فقال لَهما: أكذلك؟ أي: هل حَصَلَ هذا الكَلامُ والِاتِّفاقُ مِنكُما؟ قال العَبَّاسُ وعَليٌّ: نَعَم، أي: أقَرَّا بِذلك وسَلَّما. فقال عُمَرُ لَهما: ثُمَّ جِئتُماني لِأقضيَ بَينَكُما، أي: ثُمَّ بَعدَ هذا الأمرِ أتَيتُما مُختَلِفَينِ مُتَخاصِمَينِ تُريدانَ أن أحكُمَ بَينَكُما في شَأنِ هذا الميراثِ. وهو أصلًا ليس لَكُما، وإنَّما لِمَن يَتَولَّى الأمرَ بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَقومُ مَقامَه. ولا واللَّهِ، لا أقضي بَينَكُما بِغَيرِ ذلك حتَّى تَقومَ السَّاعةُ، أي: إلَّا بِما تَقدَّم مِن تَسليمِها لَهما على سَبيلِ الوِلايةِ، وكَرِهَ عُمَرُ أن يوقِعَ عليها اسمَ القِسمةِ؛ لِئَلَّا يُظَنُّ لِذلك مَعَ تَطاوُلِ الأزمانِ أنَّها ميراثٌ، وأنَّهما وَرِثاه، لا سيَّما وقِسمةُ الميراثِ بَينَ البِنتِ والعَمِّ نِصفانِ، فيَلتَبِسُ ذلك ويُظَنُّ أنَّهما تَمَلَّكا ذلك. فإن عَجَزتُما عنها، أي: عن رِعايَتِها على ذلك الشَّرطِ، فرُدَّاها إليَّ، أي: فأنا كافٍ لَكُما عنها. والمَعنى: سَلِّما لي الأموالَ؛ فأنا أقومُ فيها بِما كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ يَفعَلانِه فيها.
وفي الحَديثِ بَيانُ ما كان عليه عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه مِنَ الزُّهدِ والتَّواضُعِ.
وفيه مَشروعيَّةُ نِداءِ الرَّجُلِ بِاسمِه مِن غَيرِ كُنيةٍ.
وفيه مَشروعيَّةُ تَرخيمِ اسمِ الرَّجُلِ إذا لَم يَكُنْ في ذلك تَنقيصٌ لَه.
وفيه أنَّ الأفضَلَ أن يَتَولَّى أمرَ كُلِّ قَبيلةٍ كَبيرُهم؛ لأنَّه أعرَفُ بِاستِحقاقِ كُلِّ رَجُلٍ مِنهم، وأرفَقُ بِهم، وأبعَدُ مِن أن يَأنَفوا مِنَ الِانقيادِ لَه.
وفيه استِعفاءُ المَرءِ مِنَ الوِلايةِ، وسُؤالُه الإمامَ ذلك بِالرِّفقِ.
وفيه مَشروعيَّةُ اتِّخاذِ الإمامِ للحاجِبِ.
وفيه مَشروعيَّةُ الجُلوسِ بَينَ يَدَيِ الإمامِ.
وفيه مَشروعيَّةُ احتِجابِ الإمامِ في بَعضِ الأوقاتِ ليَتَفرَّغَ لِما يَخُصُّ أُمورَ المُسلِمينَ ويَعنيه مِن أحوالِه.
وفيه مَشروعيَّةُ الشَّفاعةِ عِندَ الإمامِ في إنفاذِ الحُكمِ.
وفيه تَبيينُ الحاكِمِ وَجهَ حُكمِه.
وفيه إقامةُ الإمامِ مَن يَنظُرُ على الوَقفِ نيابةً عنه، والتَّشريكُ بَينَ الِاثنَينِ في ذلك.
وفيه قَبولُ خَبَرِ الواحِدِ والقَضاءُ بِه.
وفيه الحَضُّ على فَصلِ الحَقِّ.
وفيه استِشهادُ الإمامِ على ما يَقولُه بِحَضرةِ الخَصمَينِ العُدلَينِ؛ لِتَقوى حُجَّتُه في إقامةِ الحَقِّ وقَمعِ الخَصمِ.
وفيه تَقريرُ الشُّهودِ والخَصمَينِ على ما يَعتَرِفونَ مِنَ الحَقِّ.
وفيه الِانقيادُ لِلسُّنَنِ والرُّجوعُ لِلحَقِّ عنِ التَّأويلِ إذا ظَهَرَ بُطلانُه.
وفيه مَشروعيَّةُ ادِّخارِ قُوتِ سَنةٍ، وأنَّ هذا لا يَقدَحُ في التَّوكُّلِ.
وفيه أنَّ الإمامَ إذا قامَ عِندَه الدَّليلُ صارَ إليه وقَضى بِمُقتَضاه، ولَم يَحتَجْ إلى أخذِه مِن غَيرِه.
وفيه حُكمُ الحاكِمِ بعِلمِه.
وفيه مَشروعيَّةُ تَنزيهِ الإنسانِ نَفسَه ومَدْحِها إذا اضطُرَّ إلى ذلك .