كان لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَجموعةٌ مِنَ الأبناءِ والبَناتِ عليهمُ السَّلامُ، وكُلُّهم مِن زَوجَتِه خَديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ما عَدا ابنَه إبراهيمَ، فكان مِن ماريةَ القِبطيَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها، وقد توُفِّيَ جَميعُ أولادِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَياتِه سَواءٌ كانوا كِبارًا أو صِغارًا، ولَم يَبقَ مِنهم إلَّا ابنَتُه فاطِمةُ رَضِيَ اللهُ عنها؛ ولهذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّها كَثيرًا ويُكرِمُها ويَهتَمُّ بِها، وبَشَّرَها أنَّها أوَّلُ مَن تَلحَقُه بَعدَ مَوتِه، وفي هذا الحَديثِ تُخبِرُ عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها، فتَقولُ: ما رَأيتُ أحَدًا كان أشبَهَ كَلامًا وحَديثًا بِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن فاطِمةَ، أي: أنَّ طَريقةَ حَديثِها وكَلامِها كانت تُشبِهُ طَريقةَ وحَديثَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وكانت فاطِمةُ رَضِيَ اللهُ عنها إذا دَخَلَت على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتِه أو مَجلِسِه قامَ إليها، أي: مُتَوجِّهًا لِاستِقبالِها، وقَبَّلها، أي: ما بَينَ عَينَيها أو رَأسَها، ورَحَّبَ بِها، وأخَذَ بيَدِها، وهذا من تَمامِ التَّحيَّةِ الأخذُ بِاليَدِ، وأجلَسَها في مَجلِسِه. وهذا مِن بالِغِ الإكرامِ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِابنَتِه، وكانت أيضًا فاطِمةُ رَضِيَ اللهُ عنها إذا دَخَلَ عليها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتِها قامَت إليه، أي: لِاستِقبالِه، فقَبَّلَته، أي: في يَدِه أو غَيرِها، وأخَذَت بيَدِه، أي: حتَّى تُجلِسَه في مَجلِسِها تَعظيمًا لَه وإكرامًا. ثُمَّ إنَّ فاطِمةَ دَخَلَت على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَرَضِه الذي توُفِّيَ فيه، أي: المَرَضِ الأخيرِ الذي ماتَ فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسَرَّ إليها، أي: أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها بِكَلامٍ بَينَهما لا يَسمَعُه أحَدٌ غَيرُها، فبَكَت، أي: بَكَت مِمَّا أسَرَّ إليها، ثُمَّ أسَرَّ إليها، أي: لمَّا رَأى أنَّها بَكَت أخبَرَها بِخَبَرٍ آخَرَ سِرًّا بَينَهما لَم يَطَّلِعْ عليه أحَدٌ، فضَحِكَت، أي: تَغَيَّرَ بُكاؤُها إلى ضَحِكٍ مِمَّا أخبَرَها بِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. تَقولُ عائِشةُ: كُنتُ أحسَبُ، أي: أظُنُّ، أنَّ لِهذه المَرأةِ، أي: فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فضلًا على النَّاسِ، أي: أنَّها مِن أعقَلِ النِّساءِ، كما جاءَ تَفسيرُه في رِوايةٍ أُخرى، فإذا هيَ امرَأةٌ مِنهنَّ، أي: هيَ واحِدةٌ مِنهنَّ لا أعقَلُهنَّ؛ لِأنَّها تَضحَكُ في هذه الحالةِ التي عليها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ المَرَضِ. بَينا هيَ تَبكي إذا هيَ تَضحَكُ! أي: كانت تَبكي ثُمَّ فجأةً انقَطَعَ البُكاءُ وظَلَّت تَضحَكُ! تَقولُ عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: فلَمَّا توُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَألَتها عن ذلك، أي: سَألَت فاطِمةَ عن سِرِّ بُكائِها وضَحِكِها عِندَما أسَرَّ إليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقالت فاطِمةُ: أسَرَّ إليَّ أنَّه مَيِّتٌ فبَكَيتُ، أي: عِندَما أسَرَّ إليَّ المَرَّةَ الأولى كان قد أخبَرَني أنَّه سَوف يَموتُ في مَرَضِه ذلك؛ فلِذلك بَكَيتُ. ثُمَّ أسَرَّ إليَّ، أي: في المَرَّةِ الثَّانيةِ، فأخبَرَني أنِّي أوَّلُ أهلِه لُحوقًا بِه، أي: أنَّ فاطِمةَ أوَّلُ مَن يَلحَقُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أهلِ بَيتِه ويَموتُ، فضَحِكتُ، أي: فرَحًا وسُرورًا؛ لأنِّي سَأكونُ أوَّلَ مَن يَلحَقُه، وقد توُفِّيَت فاطِمةُ رَضِيَ اللهُ عنها بَعدَ مَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِسِتَّةِ أشهُرٍ.
وفي الحَديثِ فَضلُ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها.
وفيه بَيانُ شَبَهِ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها بِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَديثِ والكَلامِ.
وفيه بَيانُ حُبِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِفاطِمةَ واهتِمامِه بِها.
وفيه مَشروعيَّةُ القيامِ لِلقادِمِ.
وفيه مَشروعيَّةُ تَقبيلِ الأبِ لِابنَتِه الكَبيرةِ المُتَزَوِّجةِ.
وفيه مَشروعيَّةُ التَّرحيبِ بِالضَّيفِ.
وفيه مَشروعيَّةُ تَقبيلِ البِنتِ لِأبيها وإكرامِه.
وفيه بَيانُ قُدرةِ اللهِ تعالى في خَلقِ الضَّحِكِ والبُكاءِ في الإنسانِ.
وفيه مواساةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابنَتَه فاطِمةَ وإدخالُه السُّرورَ عليها.
وفيه بَيانُ أنَّ فاطِمةَ أوَّلُ مَن ماتَ مِن أهلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ مَوتِه.
وفيه عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ.
وفيه ما كان عليه الصَّحابةُ مِن إيثارِهمُ الآخِرةَ وسُرورِهم بِالِانتِقالِ إليها والخَلاصِ مِنَ الدُّنيا .