الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ مِن أفضَلِ الأعمالِ عِندَ اللهِ تعالى؛ يَبذُلُ الإنسانُ نَفسَه ومالَه في سَبيلِ اللهِ، وقد جاءَتِ النُّصوصُ الكَثيرةُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ بالتَّرغيبِ في الجِهادِ والحَثِّ عليه وبَيانِ ما للمُجاهدِ في سَبيلِ اللهِ مِنَ الأجرِ العَظيمِ، وأنَّ اللَّهَ تعالى يُحِبُّ الذينَ يُقاتِلونَ في سَبيلِه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}
[الصف: 4] ، وقد جاءَ في سَبَبِ نُزولِ هذه الآيةِ ما حَكاه عَبدُ اللَّهِ بنُ سَلامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فيَقولُ: تَذاكَرْنا بَينَنا، أي: جَلَسَ جَماعةٌ مِنَ الصَّحابةِ يَتَذاكَرونَ عن أحَبِّ الأعمالِ إلى اللهِ حتَّى يَعمَلوا بها؛ فقد جاءَ في رِوايةٍ موضَّحةٍ: تَذاكَرْنا فقُلْنا: لَو نَعلَمُ أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ تعالى لَعَمِلناه. قُلنا: أيُّكُم يَأتي رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَسألُه: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ أي: مَن يَتَطَوَّعُ ويَذهَبُ فيَسألُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم عن أحَبِّ الأعمالِ إلى اللهِ. وهِبْنا -مِنَ الهَيبةِ، يُقالُ: هابَ الشَّيءَ يَهابُه: إذا خافه وإذا وقَّرَه وعَظَّمَه- أن يَقومَ مِنَّا أحَدٌ، أي: خافوا أن يَذهَبَ أحَدُهم ويَسألَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم. فأرسَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلينا رَجُلًا رَجُلًا حتَّى جَمَعَنا، أي: أنَّ الوحيَ نَزَلَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشَأنِهم، والظَّاهرُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يُرسِلْ إليهم إلَّا بَعدَ اطِّلاعِه على ما عَزَموا عليه مِن أنَّهم لَو عَرَفوا أحَبَّ الأعمالِ لَعَمِلوا بها. فبَعَثَ إليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يَدعو كُلَّ رَجُلٍ بمُفرَدِه، وهكذا البَقيَّةُ حتَّى حَضَروا جَميعُهم عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم. فجَعَلَ بَعضُنا يُشيرُ إلى بَعضٍ، أي: جَعَلَ بَعضُهم يُشيرُ إلى بَعضٍ تَعجُّبًا مِن مَعرِفةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما عَزَموا عليه، وتَخَوَّفوا أن يَكونَ نَزَل بشَأنِهم قُرآنٌ، وقد جاءَ هذا موضَّحًا في رِوايةٍ أخرى: فلَمَّا اجتَمَعنا عِندَه أومَأ بَعضُنا إلى بَعضٍ: لأيِّ شَيءٍ أرسَلَ إلينا؟ ففَزِعنا أن يَكونَ نَزَل فينا! فقَرَأ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
[الصف: 1 - 3] ، فتَلاها مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، أي: سورةَ الصَّفِّ كُلَّها. والمَعنى: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قَرَأ عليهم سورةَ الصَّفِّ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، وفيها الحَثُّ على الجِهادِ وأنَّه مِن أحَبِّ الأعمالِ إلى اللهِ، فتَلاها علينا عَبدُ اللَّهِ بنُ سَلامٍ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، أي: أنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ سَلامٍ قَرَأ سورةَ الصَّفِّ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها على مَن بَعدَه، وهو عَطاءُ بنُ يَسارٍ. فتَلاها علينا عَطاءُ بنُ يَسارٍ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، أي: أنَّ عَطاءً قَرَأ سورةَ الصَّفِّ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها على مَن بَعدَه، وهو هلالُ بنُ أبي أمَيَّةَ الرَّاوي عنه، فتَلاها علينا هلالٌ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، أي: أنَّ هلالًا قَرَأ سورةَ الصَّفِّ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها على مَن بَعدَه، وهو يَحيى بنُ أبي كَثيرٍ الرَّاوي عنه، قال الأوزاعيُّ: فتَلاها علينا يَحيى مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، أي: أنَّ يَحيى قَرَأ سورةَ الصَّفِّ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها على مَن بَعدَه، وهو الأوزاعيُّ الرَّاوي عنه. وهكذا تَتابَع الرُّواةُ بَعدَهم على تِلاوةِ هذه الآيةِ عِندَ التَّحديثِ بها الحَديثِ، وهذا الحَديثُ يُسَمَّى بالمُسَلسَلِ بقِراءةِ سورةِ الصَّفِّ. والمُسَلسَلُ: أن يَتَتابَعَ الرُّواةُ على صِفةٍ مُعَيَّنةٍ أو قَولٍ مُعَيَّنٍ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ الجُلوسِ للتَّذاكُرِ والعِلمِ.
وفيه إثباتُ صِفةِ الحُبِّ للهِ تعالى.
وفيه حِرصُ الصَّحابةِ على مَعرِفةِ أحَبِّ الأعمالِ إلى اللهِ.
وفيه بَيانُ سَبَبِ نُزولِ الآيةِ.
وفيه أنَّ القِتالَ في سَبيلِ اللهِ مِن أحَبِّ الأعمالِ إلى اللهِ.
وفيه حِرصُ الرُّواةِ على ضَبطِ الحَديثِ، وذلك مِن خِلالِ تَسَلسُلِهم في تِلاوةِ الآيةِ كما قَرَأها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .