بَعَثَ اللَّهُ تعالى نَبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَشيرًا ونَذيرًا للعالمينَ كافَّةً جِنِّهم وإنسِهم، فبَلَّغَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أمَرَه به رَبُّه أتَمَّ البَلاغِ، واجتَهَدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دَعوةِ الجِنِّ والإنسِ جَميعًا، وقد كان الجِنُّ يَأتونَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَستَمِعونَ له ويُؤمِنونَ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحيانًا يَذهَبُ إلَيهم ويَدعوهم إلى الإسلامِ ويُعَلِّمُهم، ومِن ذلك ما جاءَ في هذا الحَديثِ؛ حَيثُ يَقولُ عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه: استبعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. مِنَ البَعثِ، وهو إثارةُ البارِكِ أوِ القاعِدِ، يُقالُ: بَعَثتُ البَعيرَ فانبَعَثَ، أي: أثَرتُه فثارَ، وفي رِوايةٍ: استتبَعَني: أي: طَلَبَ مِنِّي أن أتبَعَه وأكونَ مَعَه، فانطَلَقْنا، أي: مَشَينا، حَتَّى أتَيتُ مَكانَ كَذا وكَذا، أي: مَوضِعًا مُعَيَّنًا هناكَ، فخَطَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لابنِ مَسعودٍ خُطَّةً. وهيَ الأرضُ يَختَطُّها بأن يُعَلِّمَ عليها عَلامةً ويَخُطَّ عليها خَطًّا، أي: خَطَّ على الأرضِ دائِرةً لا يَتَعَدَّاها ابنُ مَسعودٍ، وقال له: كُنْ بَينَ ظَهرَي هذه، أي: الدَّائِرةِ، لا تَخرُجْ مِنها. والمَعنى: اجلِسْ في هذه الدَّائِرةِ واحذَرْ أن تَخرُجَ مِنها، فإنَّك إن خَرَجتَ هَلَكتَ! أي: أُصِبتَ بالهَلاكِ؛ إمَّا المَوتِ أو غَيرِه. قال ابنُ مَسعودٍ: فكُنتُ فيها، أي: المَوضِعِ الذي خَطَّه لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ومَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، خَذَفةً، أي: قَدرَ رَميةٍ بحَصاةٍ، أو أبعَدَ شَيئًا، أي: أبعَدَ مِن رَميةِ الحَصى بقَليلٍ، أو كما قال، أي: أنَّ هذا شَكٌّ مِنَ الرَّاوي: هَل قال خَذفةً أو أبعَدَ شَيئًا؟ ثُمَّ إنَّه ذَكَرَ، أي: ابنُ مَسعودٍ، هَنينًا، وهو يُكَنَّى به عنِ الرِّجالِ، فكَأنَّه أرادَ الكِنايةَ عن أشخاصِهم، أي: أنَّه رَأى رِجالًا كَأنَّهمُ الزُّطُّ. وهم جِنسُ الهندِ والسُّودانِ -قال عَفَّانِ: أو كما قال عَفَّانُ: إن شاءَ اللهُ- وهو شَكٌّ مِنَ الرَّاوي، ثُمَّ ذَكَرَ صِفاتِ هؤلاء الرِّجالِ، فقال: ليس عليهم ثيابٌ، ولا أرى سَوآتِهم، طِوالًا، جَمعُ طَويلٍ، قَليلٌ لَحمُهم، أي: أنَّهم نِحافٌ، فأتَوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَعَلوا يَركَبونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: يَزحَمونَه ويَقرُبونَ مِنه، وجَعَلَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرَأُ عليهم، أي: القُرآنَ، وجَعَلوا يَأتوني، أي: ذَهَبوا إلى مَكانِ ابنِ مَسعودٍ، وجَعَلوا يُخيلونَ، أو يَميلونَ حَولي، أي: يُقبِلونَ عليه ويَميلونَ ويَدورونَ حَولَه، ويَعتَرِضونَ لي، أي: يَتَجَنَّبونَ عنِّي، قال عَبدُ اللَّهِ: فأُرعِبتُ مِنهم رُعبًا شَديدًا! أي: خِفتُ مِنهم خَوفًا شَديدًا، فجَلَستُ، أي: جَلَسَ في مَكانِه ولَم يَتَحَرَّكْ كما أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فلَمَّا انشَقَّ عَمودُ الصُّبحِ، أي: ظَهَرَ نورُ الفجرِ، جَعَلوا يَذهَبونَ مِن عِندِ ابنِ مَسعودٍ، يَقولُ ابنُ مَسعودٍ: ثُمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَ ثَقيلًا وَجِعًا، أي: جاءَ مُتعَبًا مُرهَقًا، أو يَكادُ أن يَكونَ وَجِعًا، مِمَّا رَكِبوه، أي: مِمَّا زَحَموه، فقال لابنِ مَسعودٍ: إنِّي لأجِدُني ثَقيلًا، أي: تَعِبًا. فوضَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأسَه في حِجري، أي: نامَ رَسولُ اللهِ في حِضنِ ابنِ مَسعودٍ مِمَّا لَحِقَه مِنَ التَّعَبِ، يَقولُ ابنُ مَسعودٍ: ثُمَّ إنَّ هَنينًا أتَوا، أي: رِجالًا آخَرينَ جاؤوا وهم غَيرُ الرِّجالِ السَّابقينَ، وعليهم ثيابٌ بيضٌ طِوالُ، أي: طَويلةٌ، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أغفى، أي: قد نامَ، يَقولُ ابنُ مَسعودٍ: فأُرعِبتُ مِنهم أشَدَّ مِمَّا أُرعِبتُ المَرَّةَ الأولى، أي: خِفتُ مِن هؤلاء الرِّجالِ خَوفًا شَديدًا أشَدَّ مِن خَوفي مِنَ الرِّجالِ السَّابقينَ! قال عارِمٌ، وهو أحَدُ الرُّواة في حَديثِه، أي: في رِوايَتِه: فقال بَعضُهم لبَعضٍ، أي: قال بَعضُ هؤلاء الرِّجالِ لبَعضِهمُ الآخَرِ: لَقد أُعطيَ هذا العَبدُ، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، خَيرًا، أو كما قالوا: إنَّ عَينَيه نائِمَتانِ، أو قال: عَينَه، أو كما قالوا: وقَلبُه يَقظانُ، أي: إنَّ مِنَ الخَيرِ الذي أوتيَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ عَينَيه تَنامان وقَلبُه يَقِظٌ، يَقولُ ابنُ مَسعودٍ: ثُمَّ إنَّ هؤلاء الرِّجالَ قال بَعضُهم لبَعضٍ: هَلُمَّ فلنَضرِبْ له مَثَلًا، أي: تَعالَوا لنَضرِبْ لهذا الرَّجُلِ، أي: النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مَثَلًا. أو كما قالوا. فقال بَعضُهم لبَعضٍ: اضرِبوا له مَثَلًا ونُؤَوِّلُ نَحنُ، أو نَضرِبُ نَحنُ وتُؤَوِّلونَ أنتُم، أي: أنَّهمُ اقتَسَموا فريقَينِ: فريقٌ يَضرِبُ المَثَلَ، والفريقُ الآخَرُ يُفسِّرُ مَعنى ذلك المَثَلِ، فقال بَعضُهم لبَعضٍ: مَثَلُه كَمَثَلِ سَيِّدٍ، أي: مَجموعُ القِصَّةِ المُتَعَلِّقةِ به كالقِصَّةِ المُتَعَلِّقةِ بهذا السَّيِّدِ لا أنَّه بمَنزِلَتِه، ابتَنى بُنيانًا حَصينًا، أي: مُحكَمَ البِناءِ قَويًّا لا أحَدَ يَستَطيعُ عليه، ثُمَّ أرسَلَ إلى النَّاسِ بطَعامٍ، أي: نادى النَّاسَ أن يَأتوا حَتَّى يَأكُلوا مِن طَعامٍ صَنعه لَهم. فمَن لَم يَأتِ طَعامَه، أو قال: لَم يَتبَعْه، أي: مَن لَم يَحضُرْ لأكلِ الطَّعامِ أو لَم يُجِبِ الدَّعوةَ، عَذَّبَه عَذابًا شَديدًا، أي: يُذيقُه العَذابَ الشَّديدَ؛ إمَّا بالضَّربِ أوِ السِّجنِ أو غَيرِ ذلك؛ بسَبَبِ عَدَمِ حُضورِه، أو كما قالوا، أي: كما قال هؤلاء الرِّجالُ الذينَ سَمِعَهمُ ابنُ مَسعودٍ يَضرِبونَ المَثَلَ. فقال الآخَرونَ، أي: قال القَومُ الآخَرونَ الذين يُفسِّرونَ مَعنى المَثَلِ الذي ضَرَبَه أولئك: أمَّا السَّيِّدُ: فهو رَبُّ العالَمينَ، وأمَّا البُنيانُ: فهو الإسلامُ، والطَّعامُ: الجَنَّةُ، وهو الدَّاعي، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَنِ اتَّبَعَه كان في الجَنَّةِ، أي: مَنِ اتَّبَعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخل الجَنَّةَ -قال عارِمٌ، وهو أحَدُ الرُّواةِ في حَديثِه، أي: في رِوايَتِه: أو كما قالوا، أي: كما قال هؤلاء الرِّجالُ الذينَ سَمِعَهمُ ابنُ مَسعودٍ- ومَن لَم يَتبَعْه عُذِّب، أي: مَن لَم يَستَجِبْ ويُؤمِنْ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخل النَّارَ. يَقولُ ابنُ مَسعودٍ: ثُمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَيقَظَ، أي: مِن نَومِه، فقال لابنِ مَسعودٍ: ما رَأيتَ يا ابنَ أُمِّ عَبدٍ؟! وهو اسمُ ابنِ مَسعودٍ، نُسِبَ إلى أُمِّه. والمَعنى: أيُّ شَيءٍ رَأيتَه يا ابنَ مَسعودٍ عِندَما كُنتَ نائِمًا؟ فقال ابنُ مَسعودٍ: رَأيتُ كَذا وكَذا، أي: أخبَرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقِصَّةِ هؤلاء الرِّجالِ الذينَ جاؤوا عِندَه وماذا قالوا. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما خَفِيَ عليَّ مِمَّا قالوا شَيءٌ! أي: إنَّ ما قالوه لَم يَخْفَ علَيَّ، بَل وعَيتُه وسَمِعتُه كامِلًا؛ وذلك أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَنامُ عَيناه ولا يَنامُ قَلبُه. ثُمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّن لابنِ مَسعودٍ مَن أولئك القَومُ، فقال: هم نَفرٌ مِنَ المَلائِكةِ، أي: جَماعةٌ مِنَ المَلائِكةِ، -أو قال:- هم مِنَ المَلائِكةِ، أو كما شاءَ اللهُ. وهو شَكٌّ مِنَ الرَّاوي: أيُّ عِبارةٍ قالها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ اصطِحابِ الأميرِ بَعضَ رَعيَّتِه مَعَه إذا ذَهَبَ لقَومٍ أو مَكانٍ مُعَيَّنٍ.
وفيه حِرصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أصحابِه وخَوفِه عليهم.
وفيه امتِثالُ الصَّحابةِ لأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه دَعوةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للخَلقِ كافَّةً مِن أيِّ جِنسٍ كانوا.
وفيه بَيانُ ما كان يُلاقيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ التَّعَبِ في نَشرِ وتَبليغِ الدِّينِ.
وفيه حِفظُ اللَّهِ تعالى لابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه تَواضُعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نَومِه في حِجرِ ابنِ مَسعودٍ.
وفيه بَيانُ ما أُعطيَه المَلائِكةُ مِن قوَّةِ التَّمَثُّلِ بصُوَرِ البَشَرِ.
وفيه مَشروعيَّةُ نِسبةِ الشَّخصِ لأُمِّه.
وفيه مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَيثُ تَنامُ عَيناه ولا يَنامُ قَلبُه.
وفيه مَشروعيَّةُ ضَربِ الأمثالِ لتَقريبِ الفَهمِ للسَّامِعينَ .