سَكَنَ اليَهودُ في المَدينةِ مَعَ الأوسِ والخَزرَجِ، وكان عِندَ اليَهودِ مَعرِفةٌ بالكُتُبِ السَّابقةِ، وأنَّه سَوف يُبعَثُ نَبيٌّ في آخِرِ الزَّمانِ، ويُقِرُّونَ بذلك بَل ويَقولونَ: إنَّهم سَيُؤمِنونَ به وهم مُنتَظِرونَ بعثَتَه لِما كانوا يَتَوقَّعونَ أنَّه سَيَكونُ مِنهم مَن بَني إسرائيلَ وليس مِنَ العَرَبِ؛ ولهذا كانوا يُخبرونَ أهلَ المَدينةِ أنَّه إذا بُعِثَ هذا النَّبيُّ سَنُؤمِنُ به ونَقتُلُكم، ولمَّا كان الأنصارُ يَسمَعونَ هذا الكَلامَ مِنَ اليَهودِ كان هذا داعيًا لَهم للإسلامِ، وعِندَما بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أسلَم الأنصارُ، وكَفَر اليَهودُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ مَعرِفتِهم بنُبوَّتِه وتحقُّقِهم مِن صِدقِه؛ حَسَدًا وبَغيًا مِن عِندِ أنفُسِهم؛ ولهذا قال جَماعةٌ مِنَ الأنصارِ: إنَّ مِمَّا دَعانا إلى الإسلامِ مَعَ رَحمةِ اللهِ تعالى وهُداه لَنا، أي: مِن أسبابِ قَبولِنا للإسلامِ بَعدَ فَضلِ اللهِ لَنا وتَوفيقِه: ما كُنَّا نَسمَعُ مِن رِجالِ اليَهودِ، أي: كانوا يَسمَعونَ مِنهم ببَعثةِ نَبيٍّ آخِرَ الزَّمانِ، وكُنَّا أهلَ شِركٍ أصحابَ أوثانٍ، أي: مُشرِكينَ نَعبُدُ الأصنامَ، وكان اليَهودُ أهلَ كِتابٍ عِندَهم عِلمٌ ليس لَنا، أي: ليس مَعنا عِلمٌ مِمَّا عِندَهم، وكانت لا تَزالُ بَينَنا وبَينَهم، أي: بَينَ أهلِ المَدينةِ واليَهودِ، شُرورٌ، أي: قِتالٌ وحُروبٌ، فإذا نِلْنا مِنهم بَعضَ ما يَكرَهونَ، أي: أوجَعْناهم في القَتلِ أو حَصَلَ لَهم أذيَّةٌ مِنَّا، قالوا لَنا: إنَّه قد تَقارَبَ زَمانُ نَبيٍّ يُبعَثُ الآنَ نَقتُلُكم مَعَه قَتْلَ عادٍ وإرَمَ، أي: تَهَدَّدوهم بأنَّه إذا بُعِثَ نَبيٌّ آخِرَ الزَّمانِ سَيَقتُلونَهم قَتلًا عامًّا مُستَأصِلًا لا يُبقونَ مِنهم أحَدًا كما وقَعَ لقَومِ عادٍ وإرَمَ. وهيَ مِنَ الأُمَمِ السَّابقةِ، عُذِّبوا عَذابًا شَديدًا. فكُنَّا كَثيرًا ما نَسمَعُ ذلك مِنهم، أي: كَثيرًا ما نَسمَعُ اليَهودَ تَقولُ ببَعثةِ نَبيٍّ آخِرَ الزَّمانِ، فلَمَّا بَعَثَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجَبناه حينَ دَعانا إلى اللهِ تعالى، أي: آمَنَّا به وصَدَّقناه، وعَرَفْنا ما كانوا يَتَوعَّدونَنا به، فبادَرناهم إليه، أي: سَبَقناهم للإيمانِ به، فآمَنَّا به، وكَفروا به، أي: كَفرَ اليَهودُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأنزلَ اللَّهُ تعالى في الأنصارِ واليَهودِ قَولَه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 
[البقرة: 89] ، أي: لمَّا جاءَ اليَهودَ القُرآنُ الكَريمُ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم مِنَ التَّوراةِ، وكانوا قَبلَ بَعثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستَفتِحونَ أي: يَستَنصِرونَ، على مُشرِكي العَرَبِ، فلَمَّا بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن غَيرِ بَني إسرائيلَ وعَرَفوا صِفتَه كما هو عِندَهم في كُتُبِهم كَفروا به بَغيًا وحَسَدًا. فلَعنةُ اللهِ على الكافِرينَ، أي: طَرَدَهمُ اللَّهُ وأبعَدَهم مِن رَحمَتِه.
وفي الحَديثِ إقرارُ اليَهودِ بنَبيٍّ يُبعَثُ في آخِرِ الزَّمانِ.
وفيه شِدَّةُ بُغضِ اليَهودِ للأنصارِ.
وفيه مُسارَعةُ الأنصارِ للإسلامِ.
وفيه بَيانُ كُفرِ اليَهودِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ مَعرِفتِهم له.
وفيه بَيانُ سَبَبِ نُزولِ الآيةِ .