خَلقَ اللهُ تَعالى الخَلقَ لغايةٍ عَظيمةٍ، وهيَ تَوحيدُه سُبحانَه وتَعالى وعِبادَتُه، ولأجلِ ذلك أرسَلَ إلى النَّاسِ الرُّسُلَ يَدعونَهم إلى عِبادةِ اللهِ وحدَه، فما زالَ اللَّهُ تَعالى يُرسِلُ رُسُلَه وأنبياءَه مِن لَدُنْ آدَمَ عليه السَّلامُ إلى عَهدِ نَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد دَعا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم النَّاسَ إلى التَّوحيدِ واجتَهَدَ في دَعوتِهم بكُلِّ الطُّرُقِ، وكان يُرسِلُ الرُّسُلَ إلى البُلدانِ يَدعونَ النَّاسَ لعِبادةِ اللهِ وحدَه، ومِن تلك البُلدانِ التي أرسَلَ إليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اليَمَنُ؛ فقد بَعَثَ إليها خالِدَ بنَ الوليدِ رَضيَ اللهُ عنه يَدعوهم إلى الإسلامِ، وكان البَراءُ بنُ عازِبٍ مَعَ خالدٍ، فأقاموا في اليَمَنِ سِتَّةَ أشهرٍ يَدعوهم إلى الإسلامِ فلَم يُجيبوه، فعِندَ ذلك بَعَثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وأمَرَه بأن يُقفِلَ خالِدَ بنَ الوليدِ، أي: يَجعَلَ خالِدَ بنَ الوليدِ ومَن مَعَه يَرجِعونَ مِنَ اليَمَنِ، والقُفولُ: هو الرُّجوعُ مِنَ الغَزوِ، إلَّا رَجُلًا كان قد يَمَّمَ مَعَ خالدٍ، أي: قَصَدَ التَّوجُّهَ مَعَ خالدٍ، وأحَبَّ أن يُعقبَ مَعَ عليٍّ فليُعقبْ مَعَه، أي: أرادَ السَّيرَ والذَّهابَ مَعَ عليٍّ دونَ الرُّجوعِ والعَودةِ إلى المَدينةِ فليَذهَبْ، والتَّعقيبُ في الغَزوِ هو: أن يَكونَ الغَزوُ بَينَهم نُوَبًا، فإذا خَرَجَت طائِفةٌ ثُمَّ عادَت لَم تُكَلَّفْ أن تَعودَ ثانيةً حَتَّى تُعقِبَها أُخرى غَيرُها، وقيلَ: إنَّ الخَليفةَ يُرسِلُ العَسكَرَ إلى جِهةٍ مُدَّةً، فإذا مَضَت رَجَعوا وأرسَلَ غَيرَهم، فمَن شاءَ أن يَرجِعَ مِنَ العَسكَرِ الأوَّلِ مَعَ العَسكَرِ الثَّاني سُمِّي رُجوعُه تَعقيبًا، وكان مِمَّن أعقَب مَعَ عَليٍّ البَراءُ بنُ عازِبٍ، فلَم يَرجِعْ مَعَ خالدٍ، بَل بَقيَ مَعَ عليٍّ، فلَمَّا دَنَوا مِنَ القَومِ، أي: مِن أهلِ اليَمَنِ، خَرَجوا إلينا، فصَلَّى بنا عليٌّ، ثُمَّ صَفَّنا صَفًّا واحِدًا، ثُمَّ تَقدَّمَ بَينَ أيدينا، وقَرَأ على أهلِ اليَمَنِ كِتابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسلَمَت هَمْدانُ جَميعًا، فكَتَبَ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُبَشِّرُه بإسلامِ هَمْدانَ، فلَمَّا قَرَأ الكِتابَ، أي: لما قُرِئَ كِتابُ عليٍّ على رَسولِ اللهِ، خَرَّ رَسولُ اللهِ ساجِدًا؛ شُكرًا للهِ تعالى على ذلك، ثُمَّ رَفعَ رَأسَه وقال: السَّلامُ على هَمْدانَ، السَّلامُ على هَمْدانَ، أي: الأمانُ والتَّحيَّةُ والسِّلمُ لقَبيلةِ هَمدانَ. وهَمدانُ قَبيلةٌ قَحطانيَّةٌ، وكانت ديارُهم في اليَمَنِ، وقَدِم وفدُهم على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في السَّنةِ التَّاسِعةِ للهِجرةِ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ بَعثِ الدُّعاةِ للبُلدانِ لدَعوتِهم إلى الإسلامِ.
وفيه بَيانُ أنَّ خالِدَ بنَ الوليدِ وعَليَّ بنَ أبي طالبٍ مِمَّن بَعَثَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اليَمَنِ.
وفيه مَشروعيَّةُ التَّعقيبِ في الغَزوِ ونَحوِه.
وفيه إسلامُ هَمْدانَ.
وفيه مَشروعيَّةُ إرسالِ البشارةِ للأميرِ بإسلامِ النَّاسِ.
وفيه مَشروعيَّةُ سُجودِ الشُّكرِ.
وفيه فرَحُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإسلامِ القَبائِلِ.
وفيه ثَناءُ رَسولِ اللهِ على هَمْدانَ .