الإسلامُ دينُ الحَقِّ، وهو الدِّينُ الذي لا يَقبَلُ اللهُ منَ النَّاسِ غَيرَه، وكُلُّ دينٍ سِواه فهو باطِلٌ، وعلى هذا الأساسِ بُنيَت كَثيرٌ من أحكامِ الشَّريعةِ، ومن ذلك أنَّه لا يَحِقُّ لكافِرٍ أن يَتَولَّى عملًا مِن أعمالِ المُسلمينَ؛ لأنَّه بتَولِّيه ذلك العَمَلَ يَكونُ الكافِرُ عاليًا على المُسلمِ، والإسلامُ يَعلو ولا يُعلى عليه، وأيضًا في تَولِّيهم أعمالَ المُسلِمينَ تَقريبٌ لَهم وجَعلُهم أعِزَّةً، وهم أهلُ ذُلٍّ وخيانةٍ، وقد نَهى اللهُ تعالى عنِ اتِّخاذِ اليَهودِ والنَّصارى أولياءَ؛ ولهذا لمَّا أمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه أبا موسى الأشعَريَّ رَضيَ اللهُ عنه أن يَرفعَ إليه ما أخَذَ وما أعطى -أي: يَكتُبَ إليه جَميعَ الأموالِ التي أخَذَها والتي وزَّعَها- في أديمٍ، أي: جِلدٍ، واحِدٍ. والمَقصودُ: أن يَكتُبَ له جَميعَ ذلك في ورَقةٍ واحِدةٍ أو نَحوِها، وكان لأبي موسى رَضيَ اللهُ عنه كاتِبٌ نَصرانيٌّ يَرفعُ إليه ذلك، أي: يُحصي ويَجمَعُ كُلَّ ذلك لأبي موسى، فعَجِبَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه وقال: إنَّ هذا لحافِظٌ! تَعَجَّبَ عُمَرُ مِن شِدَّةِ ضَبطِ هذا الكاتِبِ وكِتابَتِه وحِفظِه وإتقانِه، ولم يَكُنْ يَعلَمُ أنَّه نَصرانيٌّ. فقال لأبي موسى: إنَّ لَنا كِتابًا في المَسجِدِ، وكان هذا الكِتابُ جاءَ مِنَ الشَّامِ، فادعُ هذا الكاتِبَ حَتَّى يَقرَأَ لَنا الكِتابَ. فقال أبو موسى رَضيَ اللهُ عنه: إنَّ الكاتِبَ لا يَستَطيعُ أن يَدخُلَ المَسجِدَ. فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: أجُنُبٌ هو؟! وذلك لأنَّه مِنَ المَعلومِ أنَّ الجُنُبَ لا يَدخُلُ المَسجِدَ. فقال أبو موسى: ليس بجُنُبٍ، بَل نَصرانيٌّ! يَعني أنَّ الذي مَنَعَه هو كُفرُه، وأنَّ الكافِرَ عِندَهم لا يَدخُلُ المَسجِدَ. فلَمَّا عَرَف عُمَرُ حالَ هذا الكاتِبِ غَضِبَ وانتَهَرَ أبا موسى، أي: زَبَرَه وأنكَرَ عليه ما فعَلَه، وضَرَبَه على فَخِذِه، وأمرَه بأن يُخرِجَ هذا النَّصرانيَّ، ثُمَّ قَرَأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
[المائدة: 51] ، فقال أبو موسى: واللهِ ما تَولَّيتُه إنَّما كان يَكتُبُ، أي: لم أتَّخِذْه وليًّا مِن دونِ المُؤمِنينَ، وإنَّما جَعَلتُه كاتبًا فقَط، فقال عُمَرُ: أما وجَدتَ في أهلِ الإسلامِ مَن يَكتُبُ لَك؟! أي: ابحَثْ في أهلِ الإسلامِ مَن يَكتُبُ، ثُمَّ قال: لا تُدْنِهم إذ أقصاهمُ اللَّهُ، أي: لا تُقَرِّبوهم وقد أبعَدَهمُ اللَّهُ، ولا تَأمَنْهم إذ خَوَّنَهمُ اللَّهُ، أي: لا تَستَأمِنوهم وقد جَعَلَهمُ اللهُ خَوَنةً، ولا تُعِزَّهم بَعد إذ أذَلَّهمُ اللهُ، أي: لا تَجعَلوهم أعِزَّةً وقد أذَلَّهمُ اللهُ بالكُفرِ؛ فعِندَ ذلك أخرَجَ أبو موسى هذا الكاتِبَ وأبعَدَه.
وفي الحَديثِ حِرصُ الأميرِ على مُتابَعةِ عُمَّالِه.
وفيه أهَمِّيَّةُ ضَبطِ وكِتابةِ نَفقاتِ الدَّولةِ.
وفيه أنَّ الجُنُبَ لا يَدخُلُ المَسجِدَ.
وفيه عَدَمُ تَمكينِ الكافِرِ مِن دُخولِ المَسجِدِ.
وفيه إنكارُ المُنكَرِ بالقَولِ والفِعلِ.
وفيه شِدَّةُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه في دينِ اللهِ.
وفيه الاستِدلالُ بالقُرآنِ عِندَ إنكارِ المُنكَرِ.
وفيه عَدَمُ تَوليةِ الكُفَّارِ على شَيءٍ مِن أعمالِ المُسلمينَ.
وفيه النَّهيُ عن تَولِّي المُسلمِ للكُفَّارِ .