منَ الأخلاقِ الذَّميمةِ التي حَذَّرَ منها اللَّهُ ورَسولُه خُلُقُ الغِيبةِ، وهي ذِكرُ الشَّخصِ في غَيبَتِه بما يَكرَهُ، فهو خُلُقٌ قَبيحٌ، فليس من أخلاقِ المُسلمِ أن يَغتابَ أخاه ويَتَكَلَّمَ فيه، وقد شَبَّهَ اللَّهُ تعالى ذلك بمَن يَأكُلُ لحمَ أخيه مَيتًا، فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}
[الحجرات: 12] ، أي: لا يَتَناولْ بَعضُكُم بَعضًا بظَهرِ الغَيبِ بما يَسوءُه ممَّا هو فيه، وفي هذا الحَديثِ يُبَيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا خُطورةَ الغِيبةِ، فيَقولُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: كانتِ العَرَبُ تَخدُمُ بَعضُها بَعضًا في الأسفارِ، وهذا من مَكارِمِ الأخلاقِ؛ خِدمةُ النَّاسِ بَعضُهم لبَعضٍ، وكان مَعَ أبي بكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما رَجُلٌ يَخدُمُهما. أي: يَقومُ بشُؤونِهما، فنامَ أبو بكرٍ وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهما ثمَّ استَيقَظا، ولم يهيِّئِ الخادِمُ لهما الطَّعامَ، فقال أحَدُهما لصاحِبِه: إنَّ هذا ليُوائِمُ نَومَ نَبيِّكُم صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وهذا لعَلَّه تَصحيفٌ، والصَّوابُ: بَيتِكُم، وفي رِوايةٍ: ليُوائِمُ نَومَ بَيتِكُم. أي: يوافِقُ، والمواءَمةُ: الموافقةُ، ومَعناه إنَّ هذا النَّومَ يُشبِهُ نَومَ البَيتِ لا نَومَ السَّفَرِ، فعابوه بكَثرةِ النَّومِ، فأيقَظاه وقالا له: اذهَبْ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقُلْ له: إنَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ يُقرِئانِك السَّلامَ، أي: يُبلِغانِك السَّلامَ، وهما يستأدِمانِك، أي: يَطلُبانِ منك شَيئًا يُؤكَلُ مَعَ الخُبزِ، والإدامُ: ما يُؤكَلُ مَعَ الخُبزِ من أيِّ شَيءٍ كان، فذَهَبَ الخادِمُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأخبَرَه بذلك، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أقرِئْهما السَّلامَ، أي: أبلِغْهما السَّلامَ، وأخبِرْهما أنَّهما قدِ ائتَدَما! فلمَّا أخبَرَ الخادِمُ أبا بكرٍ وعُمَرَ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَزِعَا، أي: خافا واستَغرَبا، كَيف أنَّهما قدِ ائتَدَما؟! فانطَلقا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالا: يا رَسولَ اللهِ، بَعَثْنا إليك نستأدِمُك، أي: نَطلُبُ منك الإدامَ، فقُلتَ: قدِ ائتَدَما! فبأيِّ شَيءٍ ائتَدَمْنا؟! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بلَحمِ أخيكُما! أي: بغِيبَتِكُم للخادِمِ حينَ تَكَلَّمتُم عليه بما يَكرَهُ! والذي نَفسي بيَدِه إنِّي لأرى لحمَه بَينَ أنيابِكُما! يَعني لحمَ الذي اغتاباه، مَعَ أنَّ القائِلَ أحَدُهما، لكِنَّ الآخَرَ سَكَتَ وأقَرَّ ولم يُنكِرْ عليه، فقالا: فاستَغفِرْ لنا يا رَسولَ اللهِ، فقال رَسولُ اللهِ: هو فليَستَغفِرْ لكما، أي: اطلُبوا منَ الخادِمِ أن يَستَغفِرَ لكُم؛ لأنَّ الحَقَّ له.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ خِدمةِ النَّاسِ بَعضِهم لبَعضٍ.
وفيه خُطورةُ أمرِ الغِيبةِ، وما فيها منَ الوعيدِ الشَّديدِ.
وفيه مَشروعيَّةُ تَبليغِ السَّلامِ للغائِبِ.
وفيه أنَّ مَن سَكَتَ عن سَماعِ المُنكَرِ ولم يُنكِرْ فهو مُشارِكٌ في المُنكَرِ.
وفيه أنَّ كَفَّارةَ الغِيبةِ طَلَبُ الاستِحلالِ مِمَّنِ اغتِيبَ، والطَّلَبُ منه أن يَستَغفِرَ لمَنِ اغتابَه .