جاءَتِ النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ بأهَمِّيَّةِ طَلبِ العِلمِ والرِّحلةِ في تَحصيلِه، والتَّثَبُّتِ في الرِّوايةِ مِمَّن قالها، وكان عِندَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم حِرصٌ في طَلَبِ العِلمِ والتَّثَبُّتِ منَ الأحاديثِ، ومن ذلك قِصَّةُ جابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، فيَقولُ: بلَغَني عن رَجُلٍ من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَديثٌ، فابتَعتُ بَعيرًا، أي: اشتَرى جملًا لكَي يُسافِرَ عليه، وشَدَّ على البَعيرِ رَحلَه، أي: مَتاعَه، ثمَّ سافرَ منَ المَدينةِ إلى الشَّامِ حتَّى يَلقى عَبدَ اللَّهِ بنَ أُنَيسٍ رَضيَ اللهُ تعالى عنه، فلمَّا وصَل إلى الشَّامِ قال لرَسولِ عَبدِ اللَّهِ بنِ أُنَيسٍ: قُل له: جابِرٌ على البابِ فاخرُجْ، فرَجَعَ الرَّسولُ، فقال: جابِرُ بنُ عَبدِ اللَّهِ؟ فقال جابِرٌ: نَعَمْ، فخَرَجَ عَبدُ اللَّهِ بنُ أُنَيسٍ رَضِيَ اللهُ عنه فعانَقَ جابرًا رَضِيَ اللهُ عنه، ثمَّ قال له جابرٌ: حَديثٌ بلغَني عنك أنَّك سَمِعتَه من رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَظالمِ، أي: ما يَكونُ بَينَ النَّاسِ في ظُلمِ بَعضِهم لبَعضٍ، لم أسمَعْه منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فخَشيتُ أن تَموتَ أو أموتَ ولم أسمَعْه، فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ أُنَيسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: يَحشُرُ اللهُ العِبادَ -وأومَأ إلى الشَّامِ- أي: أنَّ أرض المَحشَرِ هي الشَّامُ، فيُحشَرونَ حُفاةً بلا أحذيةٍ، عُراةً بلا ثيابٍ، بُهْمًا، وفسَّرَها عَبدُ اللَّهِ بنُ أُنَيسٍ: بأنَّه ليس مَعَهم شَيءٌ، يَعني: ليس فيهم شَيءٌ منَ العاهاتِ: كالعَمى والعَورِ وغَيرِهما، وإنَّما أجسادٌ صَحيحةٌ للخُلودِ إمَّا في الجَنَّةِ وإمَّا في النَّارِ، ثمَّ يُنادي اللَّهُ تعالى بصَوتٍ يُسمَعُ مِن بُعدٍ كما يُسمَعُ مِن قُربٍ: أنا المَلكُ أنا الدَّيَّانُ، أي: الذي يُجازي العِبادَ على أعمالِهم، حَرامٌ على نَفسٍ تَدخُلُ الجَنَّةَ ولنَفسٍ من أهلِ النَّارِ قِبَلَها -أي: عِندَها- مَظلَمةٌ، حَرامٌ على نَفسٍ تَدخُلُ النَّارَ ولنَفسٍ من أهلِ الجَنَّةِ قِبَلَها مَظلَمةٌ. فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ أُنَيسٍ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وكَيف يَكونُ ذلك وهم حُفاةٌ عُراةٌ؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، أي: أنَّ القَصَّاصَ بَينَهم سيَكونُ بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ.
وفي الحَديثِ فَضلُ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه وحِرصُه على طَلَبِ العِلمِ.
وفيه مَشروعيَّةُ الرِّحلةِ في طَلَبِ العِلمِ.
وفيه مَشروعيَّةُ الاستِئذانِ عِندَ الدُّخولِ.
وفيه مَشروعيَّةُ مُعانَقةِ القادِمِ من سَفَرٍ.
وفيه أنَّ الشَّامَ هي أرضُ المَحشَرِ.
وفيه بَيانُ كَيفيَّةِ حَشرِ النَّاسِ يَومَ القيامةِ.
وفيه إثباتُ صِفةِ النِّداءِ والصَّوتِ للَّهِ تعالى.
وفيه بَيانُ كَمالِ عَدلِ اللهِ تعالى بَينَ خَلقِه.
وفيه خُطورةُ أمرِ المَظالِمِ بَينَ النَّاسِ.
وفيه أنَّ القِصاصَ يَومَ القيامةِ في المَظالمِ يَكونُ بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ.