في هذا الحَديثِ إشارةٌ إلى عِظَمِ التَّوحيدِ وفَضْلِ (لا إلهَ إلَّا اللهُ)، والتَّحذيرُ مِن الكِبْرِ؛ لأنَّ المُتكبِّرَ يَنظُرُ إلى نفْسِه بعَينِ الكمالِ، وإلى غيرِه بعَينِ النَّقصِ، فيَحتقِرُهم ويَزْدَريهم ولا يَراهم أهلًا لأنْ يقومَ بحُقوقِهم، ولا أنْ يَقبَلَ مِن أحدٍ منهم الحقَّ إذا أخبَرَه به، وقد جاء الوعيدُ مِن اللهِ تَعالى على ذلك.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما: "كنَّا عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجاء رجلٌ مِن أهْلِ الباديةِ"، أي: مِن البدْوِ الذين يَسكُنون الصَّحراءَ، "عليه جُبَّةُ سِيجَانٍ" جمعُ ساجٍ، وهو الطَّيلسانُ الأخضَرُ، والطَّيلسانُ: غِطاءٌ يُطرَحُ على الرَّأسِ والكتِفَينِ، والجُبَّةُ: ثوبٌ واسعٌ يُلبَسُ فوقَ الثِّيابِ، "مَزْرورةٌ بالدِّيباجِ"، أي: معقودةٌ ومجموعةٌ بأزرارٍ مِن الدِّيباجِ، وهي المُتَّخذةُ مِن الحريرِ الرَّقيقِ. فقال هذا الرَّجلُ البَدَويُّ: "ألَا إنَّ صاحِبَكم هذا"، يقصِدُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "قد وضَعَ كلَّ فارسٍ ابنِ فارسٍ -قال: يُرِيد أنْ يضَعَ كلَّ فارسٍ ابنِ فارسٍ- ويرفَعَ كلَّ راعٍ ابنِ راعٍ"، يعني: أنَّه يُرِيدُ أنْ يُقلِّلَ مِن شأْنِ الفارسِ ابنِ الفارسِ، مع أنَّه رأْسٌ في قومِه، ويُعْلِيَ مِن شأْنِ الرَّاعي ابنِ الرَّاعي، مع أنَّه وضيعٌ في قَومِه، أي أنَّ صاحِبَكم يُريدُ أنْ يُسوِّيَ بين النَّاسِ وبين السَّادةِ والعَبيدِ بزَعمِ أنَّ التَّفاضُلَ عندَ اللهِ بالدِّينِ والتَّقوَى. قال عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما: "فأخَذَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم بمجامِعِ جُبَّتِه"، أي: أمسَكَ بأطرافِ رِدائِه التي يَلْتِقي بعضُها ببعضٍ، "وقال: ألَا أرى عليك لِباسَ مَن لا يَعقِلُ؟" وذلك لأنَّه يَلبَسُ الطَّيلسانَ الذي أزرارُه مِن الحريرِ، والطَّيلسانُ مِن لِباسِ العجَمِ، والحريرُ يَلبَسُه مَن لا خَلاقَ له، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّما يَلبَسُ الحريرَ مَن لا خَلاقَ له). مُتَّفقٌ عليه.
"ثمَّ قال: إنَّ نَبِيَّ اللهِ نوحًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا حضَرَتْه الوفاةُ، قال لابْنِه: إنِّي قاصٌّ عليك الوصيَّةَ" أي: أقولُ لك وأُخْبِرُك بوَصيَّتي لك. وفي روايةٍ: "إني قاصِرٌ"، وهي تحتملُ معنيَينِ؛ الأول: أي: إنَّنِي سأُوصيكَ أنت فقط. والثاني: أي: إنِّي سأُقَصِّر في وصيَّتي ولن أُطيلَ عليك حتَّى تَحفَظَ وصيَّتي؛ "آمُرُك باثنتَينِ، وأنهاكَ عن اثنتَينِ"، أي: آمُرُك بأمْرَينِ، وأنهاك عن نَهيَينِ، "آمُرُك بـ(لا إلهَ إلَّا اللهُ)"، وهي شهادةُ التَّوحيدِ للهِ، وأنَّه لا مَعبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ رَبُّ العالَمينَ وإلَهُم الواحِدُ الأحَدُ، "فإنَّ السَّمواتِ السَّبعَ والأرضينَ السَّبعَ، لو وُضِعَت في كِفَّةٍ، ووُضِعَت (لا إلهَ إلَّا اللهُ) في كِفَّةٍ، رَجَحَت بهنَّ (لا إلهَ إلَّا اللهُ)"؛ وذلك لِثِقَلِها في الميزانِ عندَ اللهِ، "ولو أنَّ السَّمواتِ السَّبعَ والأرَضينَ السَّبعَ كنَّ حلْقةً مُبْهمةً"، أي: غيرَ معلومةِ المدخلِ والطَّرفِ، "قَصَمَتْهُنَّ"، أي: قَطَعَتْهُنَّ وكسَرَتْهُنَّ، "لا إلهَ إلَّا اللهُ". ثمَّ بيَّن له الأمْرَ الثَّانيَ: "وسُبحانَ اللهِ وبحمْدِه"، أي: تنزَّهَ اللهُ عن كلِّ نقْصٍ، وله الحمْدُ والثَّناءُ الحَسنُ؛ "فإنَّها صلاةُ كلِّ شيءٍ"، أي: هذا التَّسبيحُ والحمْدُ هو دُعاءُ وعِبادةُ كلِّ أحدٍ مِن الخَلقِ كما قال سُبحانَه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}
[الإسراء: 44] ، "وبها يُرْزَقُ الخلْقُ"، أي: ببَركةِ هذا الذِّكْرِ يَمُنُّ اللهُ تَعالى بِرِزقِه على عِبادِه.
"وأنهاكَ عن الشِّركِ"، أي: عِبادةِ غيرِ اللهِ واتِّخاذِ الأندادِ معه، "والكِبْرِ" وهو التَّرفُّعُ على النَّاسِ، ووضْعُ الرَّجُلِ نفْسَه في الموضعِ الذي لم يَضَعْه اللهُ فيه. قال عبدُ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه: "قلْتُ -أو قِيل-: يا رسولَ اللهِ، هذا الشِّركُ قد عرَفْنا، فما الكِبْرُ؛ أنْ يكونَ لأحدِنا نَعلانِ حَسنتانِ"، أي: حِذاءانِ جميلانِ، "لهما شِراكانِ حَسنانِ؟" أي: خَيطانِ جميلانِ مِن السُّيورِ التي تَربِطُ الحذاءَ وتَدخُلُ فيها القدَمُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لا. قال: أنْ يكونَ لأحدِنا حُلَّةٌ يَلبَسُها؟" والحُلَّةُ: ثَوبٌ مِن قِطعتَينِ: إزارٍ ورِداءٍ، "فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا. قال: الكِبْرُ: هو أنْ يكونَ لأحدِنا دابَّةٌ يَركَبُها؟ قال: لا. قال: أفهُوَ أنْ يكونَ لِأحدِنا أصحابٌ يَجلِسُون إليه؟ قال: لا. قِيل: يا رسولَ اللهِ، فما الكِبْرُ؟" والصَّحابةُ سألوا عن كلِّ ذلك، والمرءُ مَجبولٌ على حُبِّ مَعرفةِ ما خَفِيَ عليه مِن مِثْلِ تلك الأمورِ؛ فخافوا أنْ يكونَ كلُّ هذا داخلًا في الكِبْرِ، فبيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المعنى الحقيقيَّ للكِبْرِ الذي يَغفُلُ عنه كثيرٌ مِن النَّاسِ؛ فقال: "سَفَهُ الحقِّ"، أي: أنْ يَرى الحقَّ سَفَهًا باطلًا، فلا يَقبَلَه، ويَتعاظَمَ عنه، ويَستخِفَّ به، ولا يَراهُ على ما هو عليه مِن الرُّجحانِ والرَّزانةِ، "وغَمْصُ النَّاسِ"، أي: احتِقارُهم وألَّا يَراهم شيئًا؛ بأنْ يَجِيءَ شامخًا أنْفُه، وإذا رأى ضُعفاءَ النَّاسِ وفُقراءَهم لم يُسلِّمْ عليهم ولم يَجلِسْ إليهم مُحتَقِرًا لهم، فحمَلَ الكِبْرَ على مَن يَرتكِبُ الباطلَ؛ لأنَّ تحريرَ الجوابِ أنَّ استعمالَ الزِّينةِ إنْ كان لإظهارِ نِعمةِ اللهِ، فلا بأْسَ، بلْ هو أمرٌ ممدوحٌ، وإنْ كان للبطَرِ المُؤدِّي إلى تَسفيهِ الحقِّ، وتحقيرِ النَّاسِ، والصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ؛ فهو المذمومُ.
وفي الحديثِ الحَثُّ والإرشادُ إلى التَّوحيدِ والذِّكرِ والتَّسبيحِ.
وفيه النَّهيُ والتَّرهيبُ عن الشِّركِ والكِبرِ.
وفيه أنَّ طلَبَ الجمالِ في المَلبَسِ والمَركَبِ ونحوِه ليس مِن الكِبرِ.
وفيه صَبرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دَعوتِه وتَحمُّلُه الأذَى.