الإمارةُ وغيرُها مِن الوِلاياتِ والمَسؤوليَّاتِ الَّتي لا يَنتظِمُ صَلاحُ النَّاسِ، ولا يَتِمُّ مَعاشُهم دونَها، والَّتي ظاهِرُها أنَّ أصْحابَها مَأْجورينَ عليها؛ إلَّا أنَّ فيها خَطرًا، والقيامَ بحُقوقِها عَسيرٌ، فلا يَنبَغي للعاقِلِ أنْ يَقتحِمَ عليها، ويَميلَ بطَبعِه إليها، فإنَّ مَن زلَّت قَدمُه فيها عنِ الصَّوابِ وحَقيقةِ ما أقامَ نفْسَه فيه؛ قدْ يَندفِعُ بها إلى فِتَنٍ تُودِي به إلى عَذابِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وفي هذا الحَديثِ يُحذِّرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقولِه: «وَيلٌ للأُمراءِ»، وهذا تَهديدٌ لمَن توَلَّى أمرًا مِن أُمورِ النَّاسِ، والوَيلُ: وادٍ في جهنَّمَ، ثمَّ أخبَرَ أنَّه يوْمَ القيامةِ سيَتمنَّى جَماعاتٌ مِن الأُمراءِ لو أنَّهم كانوا مُعلَّقينَ «بذَوائبِهم»، وهي مُقدِّمةُ شَعرِهم بنَجمِ الثُّريَّا البَعيدِ في السَّماءِ، وعُذِّبوا في الدُّنْيا، وأنَّهم لم يَكونوا توَلَّوْا شَيئًا قطُّ مِن الإمارةِ على النَّاسِ، والمَعْنى: أنَّه لو سقَطَ هاويًا مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، فهذا السُّقوطُ سوْف يكونُ أحَبَّ إليه مِن وِلايةِ أُمورِ النَّاسِ؛ مِن خِلافةٍ، أو إمارةٍ، أو غيرِها؛ مِن شِدَّةِ ما سيَلْقاهُ يومَ القِيامةِ مِن أجْلِ هذه الوِلايةِ، خاصَّةً وإنْ وقَعَ منه مَظلَمةٌ لأحَدِ النَّاسِ.
وهذا إرْشادٌ وتَوْجيهٌ نَبَويٌّ إلى عدَمِ التَّكالُبِ على المَناصِبِ والوِلاياتِ دونَ وَجْهِ حقٍّ، ودونَ قُدرةٍ على تَحمُّلِ مَهامِّها وثِقَلِها، كما أنَّ فيه إرشادًا وحثًّا على تَحرِّي العَدلِ في الوِلاياتِ، والتَّيْسيرِ على النَّاسِ حسَبَ أوامِرِ اللهِ ورَسولِه، وبأقرَبِ الطُّرقِ وأرفَقِها بالنَّاسِ.
وإنَّما يَختصُّ هذا التَّحذيرُ للظَّالِمينَ، أوِ الضُّعفاءِ منهم؛ لمَا تَتطَلَّبُ مَواقِعُهم ومَسْؤوليَّاتُهم مِن القوَّةِ، والعَدلِ، والتَّسويةِ، وعَدمِ الخيانةِ، وتَرْكِ التَّسلُّطِ بظُلمٍ على أحدٍ، وهي أُمورٌ يَصعُبُ جَمعُها إلَّا مَن يمُنُّ اللهُ عليه بذلك؛ فيكونُ قادِرًا على القيامِ بواجبِ مَسؤوليَّتِه الَّتي خوَّلَه اللهُ فيها؛ فقدْ جاء في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أبي هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «سَبعةٌ يُظلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه، يوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: الإمامُ العادلُ...»، والمُرادُ به: صاحِبُ الوِلايةِ العُظْمى، ويَلتَحِقُ به كلُّ مَن وَليَ شَيئًا مِن أُمورِ المُسلِمينَ، فعدَلَ فيه، واتَّبعَ أمْرَ اللهِ بوَضعِ كلِّ شَيءٍ في مَوضِعِه مِن غَيرِ إفْراطٍ ولا تَفريطٍ، كما قال اللهُ تعالَى عنهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
[الحج: 41] .
وفي الحَديثِ: ذمُّ الحِرصِ على تَولِّي الإمارةِ ونَحوِها.
وفيه: بَيانُ سُوءِ عاقِبةِ مَن تَولَّى أُمورَ النَّاسِ، ولم يَقُمْ بحُقوقِهم.