كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَريصًا على هِدايةِ قَومِه ودُخولِهم في الإسْلامِ، وقدْ رَغَّبَهم ودَعاهم إلى التَّوْحيدِ والإيمانِ برِسالتِه.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَمَع قوْمَه مِن بَني عبدِ المُطَّلِبِ، ودَعاهم للطَّعامِ على عادةِ العرَبِ، وكان فيهم جَماعةٌ، كلُّ واحدٍ منهم «يَأكُلُ الجَذَعةَ والفَرَقَ»؛ أي: يَأكُلُ ويَشرَبُ كَميَّةً كَبيرةً، والجَذَعُ مِن الإبِلِ: ما دخَل في السَّنةِ الخامِسةِ، ومِن البَقرِ والمَعْزِ: ما دخَل في السَّنةِ الثَّانيةِ، وقيلَ: البَقرُ في الثَّالثةِ، ومنَ الضَّأْنِ: ما تمَّت له سَنةٌ، والظَّاهرُ أنَّ المُرادَ جَذَعُ الضَّأْنِ أو المَعْزِ، والفَرَقُ: مِكيالٌ يسَعُ ستَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وهو اثْنا عشَرَ مُدًّا، أو ثَلاثةُ آصُعٍ عندَ أهْلِ الحِجازِ، وقيلَ: الفَرَقُ: خَمسةُ أقْساطٍ، والقِسطُ: نِصفُ صاعٍ، والرِّطْلُ يختَلِفُ باختلافِ البُلدانِ، وهو على رَأيِ الجُمهورِ يَزِنُ حَوالَيْ 380 جِرامًا، وعلى رأيِ الحنَفيَّةِ يَزِنُ 538 جِرامًا.
وكانت مُناسَبةُ هذه الوَليمةِ أنَّه لمَّا نزَل قولُه تعالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
[الشعراء: 214] ، فأمَر اللهُ سُبحانه نَبيَّه أنْ يُنذِرَ قَومَه الأقْرَبينَ، ويَدْعوَهم إلى الإسْلامِ، فدَعاهم وصَنَع لهم قَدْرَ المُدِّ مِن الطَّعامِ، وهو مِقدارُ ما يَملأُ الكَفَّينِ، وهو مِقدارٌ قَليلٌ، ومع ذلك أكَلوا جَميعُهم حتَّى شَبِعوا، وبَقيَ الطَّعامُ كما كان كأنَّه لم يُمَسَّ، وهذا مِن بَرَكةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «ثمَّ دَعا بغُمْرٍ» وهو إناءٌ صَغيرٌ مَملوءٌ بالشَّرابِ مِثلِ اللَّبَنِ أو الماءِ، فشَرِبوا حتَّى رَوَوْا، وذهَب ظَمؤُهم، وقدْ بَقيَ الشَّرابُ في الإناءِ كأنَّه لم يُمَسَّ، أو لم يَشرَبْ منه أحدٌ.
وبعْدَ انْتِهائِهم مِن الطَّعامِ والشَّرابِ دَعاهم إلى الدُّخولِ في الإسْلامِ، وأعْلَمَهم بحَقيقةِ دَعوتِه؛ فقال: «يا بَني عبدِ المُطَّلِبِ، إنِّي بُعِثتُ لكم خاصَّةً، وإلى النَّاسِ بعامَّةٍ»، فأوضَحَ أنَّه رَسولٌ مِن اللهِ للدَّعوةِ إلى عِبادتِه وَحْدَه، وتَرْكِ ما دُونَه، ثمَّ قال لهم: «وقدْ رَأيتُم مِن هذه الآيةِ ما رَأيتُم»، والآيةُ هي ما وضَعَه اللهُ عزَّ وجلَّ منَ البَرَكةِ في الطَّعامِ القَليلِ، وكذلك الشَّرابُ الَّذى لا يَكْفي رجُلًا واحدًا؛ فقدْ أكَل الجَميعُ، وبَقيَ الطَّعامُ والشَّرابُ كما هو لم يَنقُصْ منه شَيءٌ، وهذه مُعجِزةٌ عَظيمةٌ، «فأيُّكمْ يُبايِعُني على أنْ يكونَ أخي وصاحبي»، فيَدخُلَ في الإسْلامِ بعْدَ أنْ رَأى هذه الآيةَ والمُعجِزةَ، فأخبَرَ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لم يقُمْ، ولم يُبايِعْه أحدٌ إلَّا هو رَضيَ اللهُ عنه، وكان أصغَرَ القَومِ سِنًّا، فقال له النَّبيُّ: اجلِسْ -ثَلاثَ مرَّاتٍ- كلُّ ذلك يَقومُ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه وَحْدَه، ويَقبَلُ دَعوةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويقولُ له: اجلِسْ، انتِظارًا لقيامِ أحدِ الكِبارِ أو بَعضِهم، وقَبولِهم للدَّعوةِ، ولكنَّهم جَميعًا رَفَضوا، فلمَّا رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك في المرَّةِ الثَّالثةِ بايَعَ عَليًّا، وضَرَب بيَدِه على يَدَيْه.
وفي الحَديثِ: مَنقَبةٌ لعَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وبَيانُ سَبْقِه في الدُّخولِ في الإسْلامِ.
وفيه: بَيانُ أنَّ الدَّاعيَ يتَّخِذُ منَ الأساليبِ ما يُناسِبُ أهلَ زَمانِه ليَدْعوَهم.
وفيه: بَيانُ أدَبِ الدَّعوةِ إلى اللهِ بالحُسْنى مع تَكرارِ الكَلامِ لمَن لم يَسمَعْ حتَّى تَقومَ عليه الحُجَّةُ.