في هذا الحَديثِ يُخبِرُ الحارثُ بنُ ضِرارٍ الخُزاعيُّ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه قَدِمَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في المَدينةِ، فدَعاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الإسلامِ، فاسْتجابَ الحارثُ رضِيَ اللهُ عنه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأسلَمَ، وأقَرَّ بالشَّهادتينِ، ثُمَّ عرَّفَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالزَّكاةِ، وما فرَضَه اللهُ عزَّ وجَلَّ على أصْحابِ الأمْوالِ، وحَقِّ اللهِ والفُقَراءِ، فاسْتجابَ الحارثُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأقَرَّ بها.
وإنَّما أخبَرَ الحارثُ رضِيَ اللهُ عنه بالزَّكاةِ بعْدَ الشَّهادتينِ، ولم يَذكُرِ الصَّلاةَ؛ لِمَا وقَعَ في الحَديثِ مِن قصَّةٍ تَتعلَّقُ بأمْرِ الزَّكاةِ، وإلَّا فإنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَعرِضُ الإسلامَ، ثُمَّ شَرائعَه: (الصَّلاةَ، ثُمَّ الزَّكاةَ، ثُمَّ الصَّومَ...).
ثُمَّ أخبَرَ الحارثُ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه بعْدَ أنِ اسْتجابَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في كلِّ أوامِرِه، أخبَرَالنَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه سيَرجِعُ إلى قَومِه وقَبيلتِه، فيَدْعوهم إلى الإسلامِ، وشَرائعِه، وما فرَضَه اللهُ عزَّ وجَلَّ مِن زَكاةٍ، وأنْ يُرسِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَسولًا مِن عِندِه؛ ليُعطِيَه ما جمَعَه له مِن زَكاةِ قَومِه. وقولُه:«إبَّانَ كذا وكذا»: في مَوعدٍ وتَوقيتٍ مُحدَّدٍ بيْنَهما.
فلمَّا حَلَّ المَوعدُ والأجَلُ المتَّفَقُ عليه، جمَعَ الحارثُ رضِيَ اللهُ عنه الزَّكاةَ مِمَّنِ اسْتجابَ له مِن قَومِه؛ فلمْ يأْتِهِ أحَدٌ مِن قِبَلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ليَأخُذَ منه ما جمَعَ، فظنَّ الحارثُ رضِيَ اللهُ عنه «أنَّه قد حدَثَ فيه سَخْطةٌ»؛ أي: قدْ وقَعَ عليه غضَبٌ مِنَ اللهِ عزَّ وجَلَّ ورسولِه، «فدعا بسَرَواتِ قَومِه»؛ أي:جمَعَ رُؤساءَ قَومِه، وزُعَماءَهم؛ ليُشاوِرَهم في الأمْرِ، وأخبَرَهم باتِّفاقِه معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمَوعدِ المحدَّدِ، وأنَّه ليس مِن شأْنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخلِفَما وعَدَ به، وأخبَرَهم بظَنِّه أنَّه لم يَمنَعْ مَجيءَ رَسولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا خطَأٌ رُبَّما وقَعَ منهم، وأخبَرَ به اللهُ عزَّ وجَلَّ نَبِيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واتَّفقَ الحارثُ معَ كِبارِ قَومِه أنْ يَأْتوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِيَتحقَّقوا مِنَ الأمْرِ وشأْنِه، ويَأْخُذوا معَهم زَكَواتِهم؛ ليُسلِموها للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وعلى الجانبِ الآخَرِ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ بعَثَ الوَليدَ بنَ عُقْبةَ رضِيَ اللهُ عنه ليُوافِيَ الحارثَ في تَوقيتِهِمُ المحدَّدِ؛ ليَقبِضَ ما جمَعَ مِنَ الزَّكاةِ، فلمَّا أنْ سار الوَليدُ مُتَّجِهًا إلى الحارثِ، وقطَعَ بعضَ الطريقِ «فَرِقَ»؛ أي: خافَ وعاد إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دونَ أنْ يُتِمَّ مُهِمَّتَه. وقيلَ: إنَّ خَوفَه كان مَبْناه أنَّ القَومَ لَمَّا عَلِموا بقُدومِه خرَجوا لِلِقائِه مُسرِعينَ فَرِحينَ مُسْتبشِرينَ بقُدومِ رَسولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأَلْقى الشَّيْطانُ في نفْسِه أنَّهم يُريدونَ قتْلَه، لا سيَّما وقدْ كان بيْنَه وبيْنَهم عَداوةٌ في الجاهليَّةِ، ورجَعَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: «يا رسولَ اللهِ، إنَّ الحارِثَ منَعَني الزَّكاةَ، وأرادَ قَتْلي»، فاتَّهَم الوليدُ الحارثَ بخَرْقِه عهْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «فضرَبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البَعْثَ إلى الحارثِ»، أي: بادر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإرسالِ جَيشٍ؛ ليُقاتلَ الحارثَ وقَومَهُ على إنكارِ عهْدِه، ومَنْعِهمُ الزَّكاةَ. وقيلَ: إنَّ خالدَ بنَ الوَليدِ رضِيَ اللهُ عنه كان على رأْسِ هذا الجَيشِ.
وفي هذه الأَثْناءِ كان الحارثُ رضِيَ اللهُ عنه قدْ تَجهَّزَ للخُروجِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليَسْتَبينَ الأمْرَ، فصادَفَ الحارثُ ومَن معَه جَيشَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان قدْ «فصَلَ مِنَ المدينةِ»، أي: وكان على مَقرُبةٍ مِنَ المدينةِ، «فلمَّا غَشِيَهم»؛ أي: وقَفَ عليهم، سَأَلَهم الحارثُ عن سبَبِ خُروجِهم، فأخْبَروه أنَّهم خارِجونَ إليْه، فسَأَلَهم عن سبَبِ ذلكَ، فأخْبَروه بقِصَّةِ الوَليدِ بنِ عُقْبةَ رضِيَ اللهُ عنه، وأنَّ الحارثَ منَعَه الزَّكاةَ وأرادَ قَتْلَه، فنَفَى الحارثُ رضِيَ اللهُ عنه ما أخْبَروه به، ثُمَّ أقسَمَ بقَولِه: «والَّذي بعَثَ محمَّدًا بالحقِّ» أنَّه ما رأَى الوَليدَ، وأنَّه لمْ يَدْخُلْ إلى قَبيلتِه، فلمَّا دخَلَ الحارثُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَه بالقصَّةِ، وبيَّن أنَّ سبَبَ مَجيئِه إلى المَدينةِ هو تَأخُّرُ جامعِ الزَّكاةِ عليه، فجاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَشْيةَ أنْ يكونَ وقَعَ في أمْرٍ يُغضِبُ اللهَ ورَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأنزَلَ اللهُ قَولَه تَعالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم}
[الحجرات: 6 - 8] .
فأمَرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ في آياتِه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَستوثِقَ مِنَ الأخبارِ، ولا يَتعجَّلَ في الأخْذِ بها؛ خاصَّةً إنْ كان الخبَرُ مِمَّن يَتَّصِفُ بصِفةِ الفِسقِ؛ لأنَّ مِثلَه لا يَتورَّعُ عنِ الكذِبِ؛ وذلكَ لئلَّا يُصيبَ قَومًا بُرَآءَ مِمَّا قُذِفوا به بِجِنايةٍ، فيقَعَ في ذلكَ النَّدَمِ.
والآيةُ في عُمومِها هي أمْرٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وللمؤمنينَ جميعًا -ومنْهم الصَّحابيُّ الجَليلُ الوَليدُ بنُ عُقْبةَ رضِيَ اللهُ عنه- أنْ يَتحَرَّوا صِحَّةَ ما قدْ يُخبَرونَ به، وما يَترتَّبُ على هذا الخبَرِ مِن آثارٍ وقَراراتٍ مَصيريَّةٍ وحَياتيَّةٍ؛ فالعِبْرةُ بعُمومِ اللَّفظِ، وليسَتْ بخُصوصِ السَّببِ.