كان الحَجَّاجُ بنُ عِلَاطٍ رضِيَ اللهُ عنه أحَدَ صَحابةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان قدْ قَدِمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو بخَيبَرَ، فأسلَمَ، وسكَنَ المَدينةَ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا افتَتحَ أرْضَ خَيبَرَ-وهي قَريةٌ تَبعُدُ عنِ المدينةِ حَوالَيْ 265 كم على طَريقِ الشَّامِ، وكان يَسكُنُها اليَهودُ، وغَزاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في السَّنةِ السَّابعةِ مِنَ الهِجرةِ- أخبَرَ الحَجَّاجُ بنُ عِلَاطٍ رضِيَ اللهُ عنه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ له مالًا وأهْلًا بمكَّةَ، ويُريدُ أنْ يَرجِعَ إليهم؛ ليَجمَعَه ويَرجِعَ به إلى المَدينةِ، وخَشِيَ إنْ عرَفَ كفَّارُ مَكَّةَ بإسلامِهِ أنْ يَأخُذوا مالَهُ، ويَمنَعوه إيَّاه، كما فعَلوا مِن قَبلُ معَ المهاجِرينَ الأوائلِ، وسأَلَه قائلًا: «فأنا في حِلٍّ إنْ أنا نِلتُ منكَ، أو قلتُ شَيئًا؟»؛ يَقصِدُ أنَّه يَنوي أنْ يَظهَرَ عندَ قُريشٍ مُدَّعيًا للكُفْرِ، ويكونَ ظاهرُ كَلامِهِ معَهُم طَعنًا في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلِمينَ؛ حتَّى يُقِرُّوه على ما ادَّعاهُ، ويَحصُلَ على مالِهِ مِنهم، فأذِنَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيما طلَبَ.
فلمَّا ذهَبَ إلى مكَّةَ دخَلَ على امرأتِهِ-وهي: أمُّ شَيبةَ أُختُ بَنِي عبدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ، وكانتْ على الكُفْرِ- فأمَرَها أنْ تَجمَعَ له ما عندَها مِن مالٍ وذهَبٍ؛ ليَشترِيَ ويُتاجِرَ مِن غَنائمِ المسلِمينَ، مُدَّعيًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَصْحابَه رضِيَ اللهُ عنهم قد استُبيحَتْ أَمْوالُهُم مِن قِبَلِ اليَهودِ، قال أنَسٌ رضِيَ اللهُ عنه: «ففَشَا ذلكَ بِمكَّةَ»؛ أي: أُشيعَ وانتَشرَ ما أخبَرَ به الحَجَّاجُ، «فانقَمعَ المسلِمونَ» الَّذينَ هم حينئذٍ بِمكَّةَ؛ والمعنى: أنَّهم استَشْعروا في أنفُسِهِمُ الذُّلَّ والمَهانةَ، واشتَدَّ عليهم ما أخبَرَ به الحَجَّاجُ مِن هَزيمةِ المسلِمينَ في المَدينةِ، وعلى الجانبِ الآخَرِ أظهَرَ المشرِكونَ فرَحًا وسُرورًا وسَعادةً بِخبَرِ هَزيمةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وكان العبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ رضِيَ اللهُ عنه عمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أسلَمَ قبْلَ فتْحِ مكَّةَ بقليلٍ. وقيلَ: إنَّه أسلَمَ قبْلَ ذلكَ، وكتَمَ إسلامَه في مَكَّةَ، وقدْ بلَغَ العبَّاسَ رضِيَ اللهُ عنه ما أخبَرَ به الحَجَّاجُ رضِيَ اللهُ عنه، فحزِنَ حُزنًا شَديدًا؛ حتَّى «عَقِرَ»؛ أي: كأنَّه ضُرِبتْ قَدَمُهُ بالسَّيفِ، فلمْ يَستطِعِ الوُقوفَ؛ لشِدَّةِ أثَرِ الخبَرِ عليه، فاستَعانَ بابنِه (قُثَمٍ)، وكان شَبيهَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «فاستَلْقَى، فوضَعَه على صَدْرِه» وهو يقولُ: «حِبِّي قُثَمْ ... شَبيهُ ذي الأَنْفِ الأَشَمّ... نَبِيُّ ذي النِّعَمْ ... برَغْمِ مَن رَغِمْ»؛ ويَقصِدُ بذلكَ مَدْحَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفي هذا ما يدُلُّ على إيمانِ العبَّاسِ يَومئذٍ، وأنَّ هذا الحُبَّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمْ يكُنْ لمجرَّدِ القَرابةِ؛ بلْ لكَونِهِ نَبيًّا ورَسولًا أيضًا.
ثُمَّ أخبَرَ أنَسٌ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ العبَّاسَ أرسَلَ غُلامًا برِسالةٍ إلى الحَجَّاجِ يَسأَلُه عن حقيقةِ الخبَرِ الَّذي انتَشرَ في أوساطِ أهْلِ مكَّةَ، وأنَّ الَّذي وعَدَ اللهُ به نَبيَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو أصدَقُ مِمَّا تُخبِرُ به، فأمَرَ الحَجَّاجُ رضِيَ اللهُ عنه الغلامَ أنْ يُبلِّغَ أبا الفَضلِ -وهي كُنْيةُ العبَّاسِ رضِيَ اللهُ عنه، والفَضْلُ أكبَرُ أبنائِه- السَّلامَ، وأنَّه سيَأْتيهِ ويَختَلي به في بعضِ بُيوتِهِ، بعيدًا عنِ الأنظارِ والأسْماعِ؛ «فإنَّ الخبَرَ على ما يَسُرُّه»؛ أي: فإنَّ حقيقةَ الأمْرِ على عَكسِ ما أخبَرَ به كفَّارَ قُريشٍ، وسَمِعَه عَوامُّهُم، وهو ما يُدخِلُ السُّرورَ على العبَّاسِ رضِيَ اللهُ عنه.
فلمَّا وصَلَ الغلامُ إلى بابِ الدَّارِ الَّتي فيها العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه قال: أَبشِرْ يا أبا الفَضْلِ، «فوثَبَ العبَّاسُ»؛أي:نهَضَ سريعًا، فقبَّلَ الغلامَ بيْنَ عَينَيْهِ؛ فرَحًا وسُرورًا ببُشْراه، ثُمَّ أخبَرَه بباقي ما قالَهُ الحَجَّاجُ، فأعتَقَ العبَّاسُ الغلامَ، وجعَلَه حُرًّا على إثْرِ ما قال.
ثُمَّ جاء الحَجَّاجُ إلى العبَّاسِ رضِيَ اللهُ عنهما، فأخبَرَه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد افتَتحَ خَيبَرَ، وغَنِمَ أموالَهُم، «وجَرَتْ سِهامُ اللهِ عزَّ وجَلَّ في أَموالِهِم»؛ أي: قسَّم غنائمَهم على الوجهِ الَّذي أمَرَ به اللهُ عزَّ وجَلَّ، كما في قَولِ الله تَعالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
[الأنفال: 41] ، والأربعةُ أخماسٍ تُقسَمُ على الجَيشِ؛ للفارسِ سَهْمٌ،وللفرَسِ سَهْمانِ، «واصْطَفَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَفيَّةَ بنتَ حُيَيٍّ»؛ وهي مِن نَسْلِ هَارونَ عليه السَّلامُ، وأبُوها سيِّدُ يَهُودِ قُرَيْظةَ والنَّضيرِ، وكان للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الغَنيمةِ سَهمُ الصَّفِيِّ، وهو ما يَأخُذُه رئيسُ الجَيشِ، ويَختارُه لِنفْسِه مِنَ الغَنيمةِ قبْلَ القِسمةِ، ويُضافُ إليه خُمُسُ الخُمُسِ كما تقدَّمَ، فاتَّخذَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لنفْسِه، «وخيَّرَها أنْ يُعتِقَها، وتكونَ زَوجتَه، أو تَلحَقَ بأهْلِها، فاختارَتْ أنْ يُعتِقَها وتكونَ زَوجتَه»؛ فكانتْ إحْدى نِسائِه رضِيَ اللهُ عنها.
ثُمَّ أخبَرَه الحَجَّاجُ رضِيَ اللهُ عنه عن سبَبِ رُجوعِهِ إلى مكَّةَ، وهو حاجتُهُ لجَمْعِ مالِهِ؛ ليَرجِعَ به إلى المَدينةِ، وأعلَمَه بحقيقةِ الأمْرِ، وما أباح له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَفعَلَه معَ كفَّارِ قُريشٍ، وأمَرَ الحَجَّاجُ العبَّاسَ رضِيَ اللهُ عنهما أنْ يُخفِيَ ما أعلَمَه به وحَقيقتَهُ لمدَّةِ ثلاثةِ أيَّامٍ؛ حتَّى يَتسنَّى له مُغادرةُ مكَّةَ راجعًا إلى المَدينةِ، ويكونَ في مَأمَنٍ مِن مُلاحَقةِ قُريشٍ له، ثُمَّ يَتكلَّمَ في قُريشٍ بما أرادَ، ويُظهِرَ لهم حَقيقةَ ما أخبَرَهم به الحَجَّاجُ.
ثُمَّ أخبَرَ أنَسٌ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ امرأةَ الحَجَّاجِ قدْ جَمَعتْ لزَوجِها ما كان عندَها مِن حُلِيٍّ ومَتاعٍ، وأَعطَتْه إيَّاه،«ثُمَّ انشَمرَ به»؛ أي: أسرَعَ في الخروجِ به، فلمَّا مرَّتِ الثَّلاثةُ أيَّامٍ، وتأكَّدَ للعبَّاسِ رضِيَ اللهُ عنه خُروجُ الحَجَّاجِ بنِ عِلَاطٍ رضِيَ اللهُ عنه، وأنَّه أصبَحَ بنفْسِهِ ومالِهِ في مأمَنٍ مِن الكُفَّارِ، ذهَبَ العبَّاسُ إلى امرأةِ الحَجَّاجِ، فسَأَلَها عن زَوجِها-وهو أعلَمُ بِحالِهِ مِنها- فأخبَرَته أنَّه قدْ ذهَبَ يَومَ كذا وكذا، وقالتْ: «لا يُحزِنُكَ اللهُ يا أبا الفَضْلِ، لقدْ شَقَّ علينا الَّذي بلَغَكَ»؛ تُواسِيهِ في خبَرِ ابنِ أَخيه؛ وهو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما علِمَتْه مِن حُزنِهِ عليه، فقال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: «أجَلْ، لا يَـحْزُنِّي اللهُ، ولمْ يكُنْ بحَمْدِ اللهِ إلَّا ما أحبَبْنا»؛ فبيَّنَ لها حَقيقةَ الخبَرِ، وأنَّ اللهُ عزَّ وجَلَّ نصَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ نصَحَها أنْ تَلحَقَ بزَوجِها، وتَذهَبَ إلى المَدينةِ، فصدَّقَتْه امرأةُ الحَجَّاجِ، فأكَّدَ لها العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه صِدقَ خبَرِه، ثُمَّ ذهَبَ حتَّى أتَى مَجالسَ قُريشٍ وأماكنَ تَجمُّعاتِهِم، فقالوا له عندَما مرَّ بهم: «لا يُصيبُكَ إلَّا خَيرٌ يا أبا الفَضْلِ»؛ يُواسونَه لحُزْنِه. ويَحتمِلُ أنَّهم يَتلامَزونَ به؛ لفَرَحِهِم بأمْرِ هَزيمةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبَرَهم أنَّه لمْ يُصِبْهُ اللهُ إلَّا بخَيرٍ، وأخبَرَ بخَبَرِ الحَجَّاجِ، وأخْذِهِ لأَمْوالِه، وهِجرتِهِ إلى المَدينةِ، واتِّفاقِهِ معَه على كِتْمانِ خبَرِه؛ حتَّى يَخرُجَ مِن مكَّةَ.
فأخبَرَ أنَسٌ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ اللهُ عزَّ وجَلَّ أبدَلَ فرَحَهُم وسُرورَهُم كآبةً وغَيظًا، ثُمَّ لحِقَ المسلِمونَ بالعبَّاسِ رضِيَ اللهُ عنه، فأخبَرَهم الخبَرَ، فسُرَّ المسلِمونَ، ورُدَّ ما كان بِهم مِن كآبةٍ، أو غَيظٍ، أو حُزنٍ على المشرِكينَ.
وفي الحَديثِ:مَشروعيَّةُ المَكْرِ على أعداءِ المسلِمينَ، والتَّحيُّلِ عليهم.