اللهُ سُبحانَه وتعالَى مُتصرِّفٌ في كَونِه كيف يَشاءُ، ولمَّا كان الخَلقُ يُكثِرونَ السَّيِّئاتِ، فإنَّه سُبحانَه تَكرَّمَ عليهم، فمَن شاء عَفا عنه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن شاء عاقَبَه بما يَستحِقُّه بسَبَبِ ما اقتَرَفه، ولكنَّه سُبحانَه لا يَجمَعُ على عَبدِه عُقوبتَينِ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي أبو جُحَيْفةَ السُّوائيُّ رَضيَ اللهُ عنه عن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه أخبَرَ النَّاسَ أنَّه سيُحدِّثُهم حَديثًا ذا فائدةٍ كَبيرةٍ، وحقٌّ على كلِّ مُسلمٍ سَمِعه أنْ يَحفَظَه، ويَستَوعِبَه، ويَفهَمَه، فحدَّثهم بهذا الحَديثِ أوَّلَ النَّهارِ، ولكنَّهم نَسُوه آخِرَه، فرَجَعوا إليه وطَلَبوا منه أنْ يُعيدَه عليهم، وهذا مِن حِرصِهم على العمَلِ بنَصيحةِ عَلِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه، فأعادَه رَضيَ اللهُ عنه تَذْكِرةً لهم، وفيه: أنَّه ما مِن عبدٍ مُسلمٍ يُذنِبُ ذنْبًا، ويَعمَلُ سيِّئةً، ثمَّ يُعاقِبُه اللهُ به في الدُّنيا؛ إلَّا كان هذا جَزاءَه التَّامَّ، ولنْ يُعاقبَه اللهُ عليه في الآخِرةِ مرَّةً أُخْرى؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أعظَمُ وأكرَمُ مِن أنْ يُعاقِبَ العبدَ على ذَنْبٍ واحدٍ مرَّتَينِ.
وكذلك إذا عَفا اللهُ عن عبدٍ أذنَبَ في الدُّنيا، فإنَّه سُبحانَه لا يَرجِعُ عن عَفوِه؛ لأنَّه حَليمٌ، وأكرَمُ مِن أنْ يَعودَ فيه يومَ القيامةِ، ومِصْداقُ ذلك مِنَ القُرآنِ الكَريمِ قولُه تعالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}
[الشورى: 30] ، أي: مهْما أصابَكم أيُّها النَّاسُ مِن المَصائبِ، فإنَّما هي سيِّئاتٌ تقدَّمَت لكم مِن كَسبِكم، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، أي: واللهُ سُبحانَه يَعْفو عنِ السَّيِّئاتِ فلا يُجازيكُم عليها، بلْ يَعْفو عنها، أو يَعْفو عن كَثيرٍ مِن النَّاسِ فلا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ، كما قال تعالَى في آيةٍ أُخْرى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}
[فاطر: 45] ، ولكنْ على المُسلمِ أنْ يُكثِرَ مِن عمَلِ الطَّاعاتِ ما استَطاعَ؛ حتَّى يَفوزَ بعَفوِ اللهِ وغُفْرانِه، وعندَ مُسلمٍ في صَحيحِه: «لَمَّا نَزَلَتْ: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بهِ}
[النساء: 123] ، بلَغَتْ مِن المُسلِمِينَ مَبْلَغًا شَديدًا، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قَارِبُوا وسَدِّدُوا؛ فَفي كُلِّ ما يُصابُ به المُسلِمُ كفَّارةٌ، حتَّى النَّكْبةِ يُنْكَبُها، أو الشَّوْكةِ يُشَاكُها»، وهذا كلُّه مِن لُطفِ اللهِ بعِبادِه أنْ يُخْطِئوا، فيَستَغفِروا، فيَغفِرَ لهم ويَعفوَ عنهم.