كلَّما ازداد العبدُ مَعرِفةً برَبِّه، وشاهَدَ نِعمَه عليه، شَعَرَ بالتَّقصيرِ في حقِّه سُبحانه، وتَواضَع وانكسَرَ، فلا يَرى لنَفْسِه فضْلًا، وهكذا كان أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفي هذا الحَديثِ يحكي التَّابِعيُّ عبدُ اللهِ بنُ أبي مُلَيكةَ أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما استأذن على أمِّ المؤمنين عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قبْلَ مَوتِها؛ كي يَزورَها، وكانت وَراءَ حِجابٍ، وكان قد غلبها المرَضُ فأضعَفَها عن التَّصرُّفِ، فقالَتْ: «أخْشَى أنْ يُثنيَ علَيَّ»، يعني: يمدَحُها ويذكُرُ فضائِلَها؛ لأنَّ الثَّناءَ يُورِثُ العُجْبَ، وهو أنْ يَحصُلَ للإنسانِ اغترارٌ بطاعتِه، فيُؤدِّيَ بصاحِبِه إلى الكِبرِ والفَخرِ والاستِطالةِ، ما يكون سَببَ هَلاكِه، فقال لها ابنُ أخيها عبدُ اللهِ بنُ عبْدِ الرَّحمنِ بنِ أبي بكرٍ: «إنَّه ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِنْ وُجوهِ المُسلمِينَ»، أي: لا يَنْبغي أنْ يُرَدَّ؛ لقَرابتِهِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَكانتِهِ بيْن النَّاسِ، فأذِنَت له بالدُّخولِ، فلمَّا دخل ابنُ عباس رَضِيَ اللهُ عنهما سألها: «كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟» أي: كيف حالُكِ؟ قالَتْ: «بخَيرٍ إن اتَّقَيْتُ»، أي: إنْ كنتُ ممَّن يَتَّقِي اللهَ في السِّرِّ والعلَنِ، قالَ: «فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إنْ شاءَ اللهُ» وعلَّل ذلك بأنها زَوْجَةُ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَلَمْ يَنْكِحْ بِكرًا غَيْرَها، ونَزَلَت براءتُها مِنَ السَّماءِ، وذلك في حادثةِ الإفْكِ، حيث برَّأَها اللهُ بقُرآنٍ يُتلَى.
ثمَّ دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بعْدَ أنْ خرَجَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم، فقالتْ له: «دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فأثْنَى علَيَّ، ووَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا»، أي: ليتَني لم أكُ شيئًا، وهذه عادةُ السَّلفِ الصَّالحِ في التَّواضُعِ للهِ ربِّ العالَمينَ.
وفي الحَديثِ: أنَّ أمْرَ المؤمنِ الحقِّ بيْن الخوْفِ مِن اللهِ وعِقابِه، وبيْن الرَّجاءِ في ثَوابِه ورَحمتِه.
وفيه: مَشروعيَّةُ تَزكيةِ مَن هو أهْلٌ لذلك إذا أُمِن عليه الغُرورُ والعُجبُ.
وفيه: أنَّ المؤمنَ يَخافُ مِن التَّزكيةِ التي تُؤدِّي إلى العُجبِ.