الموسوعة الحديثية


- دُعِيَ عبدُ اللهِ بنُ يزيدٍ إلى طعامٍ فلما جاء رأى البيتَ مُنَجَّدًا فقعد خارجًا وبكى قال فقيل ما يبكيكَ قال كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا شيَّع جيشًا فبلغ عُقبةَ الوداعِ قال أستودعُ اللهَ دينَكم وأمانتَكم وخواتيمَ أعمالِكم قال فرأى رجلًا ذاتَ يومٍ قد رفع بُردةً له بقطعةٍ قال فاستقبل مطلعَ الشَّمسِ وقال هكذا ومدَّ عفَّان يدَه وقال تطالعتْ عليكم الدُّنيا ثلاثَ مراتٍ أي أقبلَتْ حتى ظننَّا أن يقعَ علينا ثم قال أنتم اليومُ خيرٌ أم إذا غدَتْ عليكم قصعةٌ وراحت أُخرى ويغدو أحدُكم في حُلَّةٍ ويَروحُ في أُخرى وتسترون بيوتَكم كما تُستَرُ الكعبةُ فقال عبدُ اللهِ بنُ يزيدَ أفلا أبكي وقد بقيتُ حتى تسترون بيوتَكم كما تُستَرُ الكعبةُ
الراوي : عبدالله بن يزيد | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة | الصفحة أو الرقم : 5/499 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح
كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصُدُّ أصحابَهُ وَيردَعُهم عن خَواطِرِ حُبِّ الدُّنيا، وما يَعرِضُ في القُلوبِ مِن تَمَنِّيها، ويُزهِّدُهم فيها؛ حتى لا يَنشَغِلوا بها، وحتى تَكونَ حياتُهم مَزرَعةً لِلآخِرةِ بالأعمالِ الصَّالِحةِ والطَّاعاتِ. وفي هذا الحَديثِ يَقولُ التابِعيُّ مُحمدُ بنُ كَعبٍ القُرَظيُّ: "دُعيَ عَبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ إلى طَعامٍ" مِن وَليمةٍ ونَحوِها، وكانَ مِن صَحابةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأجابَ الدَّعوةَ، "فلَمَّا جاء رأى البَيتَ مُنجَّدًا" بمَعنى أنَّه رأى على حَوائِطِ البَيتِ سُتورًا تُغطِّيها، "فقَعَدَ خارِجًا" ولم يَدخُلِ البَيتَ "وبَكى، قال: فقيل: ما يُبكيكَ؟" سألَه أصحابُه عن سَبَبِ بُكائِه، فقال عَبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه: "كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا شَيَّعَ جَيشًا"، أي: إذا وَدَّعَ الجَيشَ المُتوجِّهَ لِقِتالِ العَدوِّ، "فبَلَغَ عَقَبةَ الوَداعِ" وهي الثَّنيَّةُ والطَّريقُ في الجَبَلِ، وقيل: ما ارتَفَعَ مِنَ الأرضِ، وعَقَبةُ الوَداعِ هي التي مِن جِهةِ تَبوكَ في طَريقِ الذَّاهبِ مِنَ المَدينةِ إلى الشَّامِ، وسُمِّيتْ بذلك لأنَّهم كانوا يُشيِّعونَ الحاجَّ والغُزاةَ إليها، ويُودِّعونَهم عِندَها، "قال: أستَودِعُ اللهَ" أسألُه عزَّ وجلَّ أنْ يَحفَظَ لكم "دِينَكم وأمانَتَكم وخواتيمَ أعمالِكم" كما يَحفَظُ الوَديعةَ، وجَعَلَهم مِنَ الوَدائعِ؛ لِأنَّ في السَّفَرِ مَشقَّةً وخَوفًا، وهما سَبَبانِ مِن أسبابِ إهمالِ بَعضِ أُمورِ الدِّينِ، والتَّقْصيرِ في بَعضِ العِباداتِ، فدَعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم بالمَعُونةِ في دِينِهم، والتَّوفيقِ فيه؛ لِأنَّه أهَمُّ شَيءٍ، وكُلُّ خَيرٍ وسَعادةٍ وفَوزٍ في الدُّنيا إنَّما تَكونُ بسَبِبِه، وكذلك لا يَخلُو سَفَرٌ مِنَ الاشتِغالِ بما يُحتاجُ إليه مِن أخْذٍ وإعطاءٍ وعِشرةٍ، فدَعا لهم أيضًا بحِفظِ الأمانةِ وتَجنُّبِ الخيانةِ، ثم دَعا لهم بحُسنِ الخاتِمةِ؛ لِتَكُونَ عاقِبَتُهم مأمونةً في الدُّنيا والآخِرةِ، وتَكُونَ أعمالُهم مَختومةً بخَيرٍ. ثم قال عَبدُ اللهِ بنُ زَيدٍ: "فرأى" النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "رَجُلًا ذاتَ يَومٍ قد رَقَّعَ بُردةً له بقِطعةٍ"، أي: رَقَّعَ ثَوبَه المَقطوعَ بقِطعةٍ أُخرى، وقيل: هذا الرَّجُلُ هو مُصعَبُ بنُ عُمَيرٍ، "قال: فاستَقبَلَ" النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "مَطلِعَ الشَّمسِ" مِن جِهةِ الشُّروقِ "-وقال هكذا، ومَدَّ عَفَّانُ يَدَه-"، أي: رَفَعَ عَفَّانُ بنُ مُسلِمٍ البَصريُّ – وهو مِن رُواةِ هذا الحَديثِ- يَدَه ناحيةَ مَشرِقِ الشَّمسِ، "وقال: تَطالَعتْ عليكمُ الدُّنيا، ثَلاثَ مَرَّاتٍ -أيْ: أقبَلَتْ-" بزَهرَتِها وخَيراتِها عليكم "حتى ظَنَنَّا أنْ يَقَعَ علينا" مِن كَثرةِ قَولِه وبُشراه بإقبالِ الدُّنيا عليهم، فظَنُّوا أنَّ خَيرَها سيَقَعُ عليهم في الحالِ، "ثم قال: أنتُمُ اليَومَ خَيرٌ، أمْ إذا غَدَتْ عليكم قَصعةٌ وراحَتْ أُخرى"، والمَعنى: كَثُرَ طَعامُكم بَعدَ أنْ كانَ قَليلًا، حتى تأكلوا مِن أنواعِه وأصنافِه في القِصاعِ والآنيةِ الكَبيرةِ، فيُؤتَى بواحِدةٍ ثم تُرفَعُ، ثم يُؤتى بأُخرى، كما هو شأنُ المُترَفينَ، وهو كِنايةٌ عن كَثرةِ أصنافِ الأطعِمةِ المَوضوعةِ على الأطباقِ بَينَ يَدَيِ المُتنَعِّمينَ، "ويَغدو أحَدُكم في حُلَّةٍ ويَروحُ في أُخرى" والحُلَّةُ هي الثَّوبُ المُكوَّنُ مِن قِطعتَيْنِ؛ إزارٍ ورِداءٍ، وهو أكثَرُ سَترًا، وأجمَلُ شَكلًا، فيُصبِحُ مِن كَثرةِ غِناهم أنَّ الرَّجُلَ يَكونُ عِندَه الثِّيابُ الكَثيرةُ، وهذا مِن غايةِ التَّنعُّمِ "وتَستُرونَ بُيوتَكم كما تُستَرُ الكَعبةُ" والمُرادُ أنَّكم تُزيِّنونَ بُيوتَكم بالثِّيابِ النَّفيسةِ، والسِّترُ مِن غايةِ التَّنعُّمِ، كما كانوا يُزيِّنونَ الكَعبةَ بأنفَسِ الثِّيابِ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ سَترَها مِن خُصوصِيَّاتِها؛ لِامتِيازِها بالتَّقديسِ، "فقال عَبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ: أفلا أبْكي وقد بَقيتُ" إلى هذا الزَّمانِ "حتى تَستُرونَ بُيوتَكم كما تُستَرُ الكَعبةُ؟!" فرأيتُ ما أخبَرَنا به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مع كَونِه زَمانًا أقَلَّ فَضلًا مِن زَمَنِ النُّبوَّةِ؛ لأنَّ طَيِّباتِ الدُّنيا آفةُ الدِّينِ، ولأنَّ الفَقيرَ الذي له كَفافٌ خَيرٌ مِنَ الغَنيِّ؛ لأنَّ الغَنيَّ يَشتَغِلُ بدُنياه، ولم يَكُنْ له فَراغُ العِبادةِ مِن كَثرةِ اشتِغالِه بالمالِ وعَرَضِ الدُّنيا. وفي الحَديثِ: إشارةٌ إلى أنَّ مَوضِعَ الأمانةِ مِنَ الناسِ كمَوضِعِ الدِّينِ منهم.