الموسوعة الحديثية


- أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دخَلَ عليه بَيتَه، فقال: يا عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو، ألم أُخبَرْ أنَّكَ تَكلَّفُ قيامَ اللَّيلِ وصيامَ النَّهارِ؟ قال: إنِّي لَأفعَلُ، فقال: إنَّ حسْبَكَ -ولا أقولُ: افعَلْ- أنْ تصومَ مِن كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ، الحَسنةُ عَشرُ أمثالِها، فكأنَّكَ قد صُمْتَ الدَّهرَ كلَّه، قال: فغلَّظْتُ فغُلِّظَ علَيَّ، قال: فقُلْتُ: إنِّي لَأجِدُ قوَّةً مِن ذلك، قال: إنَّ مِن حسْبِكَ أنْ تصومَ مِن كلِّ جمُعةٍ ثلاثةَ أيَّامٍ، قال: فغلَّظْتُ فغُلِّظَ علَيَّ، فقُلْتُ: إنِّي لَأجِدُ بي قوَّةً، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أعدَلُ الصِّيامِ عندَ اللهِ صيامُ داوُدَ، نِصفُ الدَّهرِ، ثُمَّ قال: لِنفْسِكَ عليكَ حقٌّ، ولِأهلِكَ عليكَ حقّ، قال: فكان عبدُ اللهِ يصومُ ذلك الصَّيامَ، حتى إذا أدرَكَه السِّنُّ والضَّعفُ، كان يقولُ: لَأنْ أكونَ قبِلْتُ رُخصةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحبُّ إليَّ مِن أهلي ومالي.
الراوي : عبدالله بن عمرو | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج المسند لشعيب | الصفحة أو الرقم : 6878 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه البخاري (1975)، ومسلم (1159)، وأبو داود (2427)، والنسائي (2391) بنحوه مختصراً، وأحمد (6878) واللفظ له
الإسْلامُ دِينُ الوَسَطيَّةِ والسَّماحةِ في كلِّ الأُمورِ، وقد أمَرَنا اللهُ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَقْواهُ على قَدْرِ الاستِطاعةِ دونَ تكلُّفٍ أو مَشقَّةٍ. وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنهما: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دخَلَ عليه بَيتَه، فقال: يا عبدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو، ألمْ أُخبَرْ أنَّكَ تَكلَّفُ قيامَ الليلِ وصيامَ النهارِ؟" يَزيدُ في أعْمالِ التطوُّعِ عمَّا هو مُعْتادٌ ومَسنونٌ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان عبدُ اللهِ يقومُ الليلَ كلَّه ولا يَنامُ، ويَسرُدُ صومَ النهارِ دونَ أنْ يُفطِرَ يومًا، فقال عبدُ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه: "إنِّي لَأفعَلُ"، فأكَّدَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما قد أُخبِرَ به، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّ حَسْبَكَ -ولا أقولُ: افعَلْ-" بمَعنى: أَنصَحُكَ لِمَا هو أفضَلُ وليس أمْرًا، "أنْ تصومَ من كلِّ شَهرٍ ثلاثةَ أيامٍ"، تَكْتَفي من كلِّ شَهرٍ بثلاثةِ أيامٍ فقطْ، وتُفطِرَ باقيَ الشهرِ، ولعلها سرر الشهر من 13 ، 14 ، 15 "الحَسَنةُ عَشْرُ أمْثالِها"، وهو مِصْداقُ قَولِه تَعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]؛ فيكونُ صِيامُه الثلاثةَ بثلاثينَ حَسَنةً، "فكأنَّكَ قد صُمْتَ الدهْرَ كلَّه"، وهو أنَّ مَن واظَبَ على صِيامِ ثلاثَةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهْرٍ تَطوُّعًا، فإنَّ ذلك يَعدِلُ ويُساوي في الثَّوابِ والأَجْرِ أجْرَ مَن صامَ السَّنةَ كلَّها، "قال: فغَلَّظْتُ فغُلِّظَ عليَّ"، وفي روايةٍ لأحمَدَ: "أُناقِصُه ويُناقِصُني"، يعني: أنَّه ما زالَ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَستَزيدُ منه في أيامِ الصِّيامِ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَنقُصُ له، قال: فقُلْتُ: إنِّي لَأجِدُ قُوةً من ذلك"، أتحَمَّلُ وأستَطيعُ صَيامَ أكثَرَ مِن ذلك، "قال: إنَّ من حَسْبِكَ أنْ تَصومَ من كلِّ جُمُعةٍ ثلاثةَ أيامٍ"، فيَصومُ من كلِّ أسبوعٍ ثلاثةَ أيامٍ، ويُفطِرُ أربعةَ أيامٍ، "قال: فغَلَّظتُ فغُلِّظَ عليَّ، فقُلْتُ: إنِّي لَأَجِدُ بي قُوةً، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أعدَلُ الصيامِ عندَ اللهِ صيامُ داوُدَ"، أفضَلُ الصيامِ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ صيامُ نَبيِّ اللهِ داوُدَ عليه السلامُ، "نِصفُ الدهْرِ"، بمَعنى: كان يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا، وإنَّما صارَتْ هذه الطَّريقةُ أحَبَّ إلى اللهِ مِن أجْلِ الأخذِ بالرِّفقِ على النُّفوسِ الَّتي يُخْشَى منها السَّآمةُ والمَلَلُ الَّذي هو سببٌ إلى تَركِ العِبادةِ، ثم قال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لنَفْسِكَ عليكَ حقٌّ، ولأَهلِكَ عليكَ حقٌّ"، وهو ما يُحْتاجُ إليه منَ الضَّروريَّاتِ البَشَريَّةِ، وما أباحَه اللهُ تَعالى منَ الأكْلِ، والشُّربِ، والراحَةِ التي يقومُ بها البَدَنُ؛ لتَكونَ له عَوْنًا على عِبادَةِ اللهِ تَعالى، وأمَّا إذا أجْهَدَ نَفْسَه في الطاعَةِ، وأَدامَ الصِّيامَ والقِيامَ وتَرْكَ المَلاذِّ ضَعُفَتْ قُوَّتُه؛ فلم يَقْدِرْ على القِيامِ بما ذُكِرَ، والمُرادُ بالأهْلِ: الزوجةُ، "قال: فكان عبدُ اللهِ يصومُ ذلك الصِّيامَ، حتى إذا أدْرَكَه السِّنُّ والضعْفُ" كَبِرَ سِنُّه، وضَعُفَ جَسَدُه، "كان يقولُ: لأنْ أكونَ قَبِلْتُ رُخْصةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَحَبُّ إليَّ من أهْلي ومالي"، ومَعْناه: أنَّه كَبِرَ وعَجَزَ عنِ المُحافَظةِ على ما ألْزَمَ به نَفْسَه عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فشَقَّ عليه فِعْلُه، ولا يُمكِنُه تَركُه؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: "يا عبدَ اللهِ، لا تكُنْ بمِثلِ فُلانٍ، كان يقومُ الليلَ فتَرَكَ قيامَ الليلِ" مُتَّفَقٌ عليه. وفي الحَديثِ: إرْشادٌ نَبَويٌّ للتوَسُّطِ، والاقتِصادِ في العِبادَةِ، وبَيانُ أنَّ سُنَّتَهُ هي عَدَمُ التَّشدُّدِ. وفيه: يَنبَغي الدوامُ على ما صارَ عادةً منَ الخَيرِ، ولا يُفرَّطُ فيه.