الموسوعة الحديثية


- عن أُمِّ سَلَمةَ -في شَأْنِ هِجرَتِهم إلى بِلادِ النَّجاشيِّ، وقد مَرَّ بَعضُ ذلك- قالتْ: فلمَّا رأتْ قُرَيشٌ ذلك اجتَمَعوا على أنْ يُرسِلوا إليه، فبعَثوا عَمرَو بنَ العاصِ، وعَبدَ اللهِ بنَ أبي رَبيعةَ، فجمَعوا هَدايا له، ولبَطارِقَتِه، فقدِموا على الملِكِ، وقالوا: إنَّ فِتْيةً منَّا سُفَهاءَ فارَقوا دِينَنا، ولم يَدخُلوا في دِينِكَ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتدَعٍ لا نَعرِفُه، ولجَؤوا إلى بِلادِكَ، فبعَثْنا إليك لتَرُدَّهم. فقالتْ بَطارِقَتُه: صدَقوا أيُّها الملِكُ. فغضِبَ، ثُمَّ قال: لا لعَمرُ اللهِ، لا أرُدُّهم إليهم حتى أُكلِّمَهم؛ قَومٌ لجَؤوا إلى بِلادي، واختاروا جِواري. فلمْ يَكُنْ شيءٌ أبغَضَ إلى عَمرٍو وابنِ أبي رَبيعةَ مِن أنْ يَسمَعَ الملِكُ كَلامَهم، فلمَّا جاءهم رسولُ النَّجاشيِّ، اجتمَعَ القَومُ، وكان الذي يُكلِّمُه جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ، فقال النَّجاشيُّ: ما هذا الدِّينُ؟ قالوا: أيُّها الملِكُ، كنَّا قَومًا على الشِّركِ؛ نَعبُدُ الأوْثانَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونُسيءُ الجِوارَ، ونَستحِلُّ المَحارمَ والدِّماءَ، فبعَثَ اللهُ إلينا نَبيًّا مِن أنفُسِنا، نَعرِفُ وَفاءَه وصِدقَه وأمانَتَه، فدَعانا إلى أنْ نَعبُدَ اللهَ وَحدَه، ونَصِلَ الرَّحِمَ، ونُحسِنَ الجِوارَ، ونُصلِّيَ، ونَصومَ. قال: فهل معكم شيءٌ ممَّا جاء به؟ -وقد دَعا أساقِفَتَه، فأمَرَهم، فنشَروا المَصاحفَ حَولَه- فقال لهم جَعفَرٌ: نعمْ، فقرَأ عليهم صَدرًا مِن سورةِ {كهيعص}. فبَكى -واللهِ- النَّجاشيُّ، حتى أخضَلَ لِحيَتَه، وبكَتْ أساقِفَتُه حتى أخضَلوا مَصاحفَهم، ثُمَّ قال: إنَّ هذا الكَلامَ ليَخرُجُ مِن المِشكاةِ التي جاء بها موسى، انطَلِقوا راشدينَ، لا واللهِ، لا أرُدُّهم عليكم، ولا أنعَمُكم عَينًا. فخرَجا مِن عندِه، فقال عَمرٌو: لآتيَنَّه غَدًا بما أستأصِلُ به خَضراءَهم، فذكَرَ له ما يقولونَ في عيسى.
الراوي : أبو بكر بن عبدالرحمن | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج سير أعلام النبلاء | الصفحة أو الرقم : 1/216 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
كانتِ الهِجْرةُ إلى أرْضِ الحَبَشةِ أوَّلَ هِجْرةٍ أمَرَ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أصْحابَهُ؛ فِرارًا مِن تَنكيلِ الكُفَّارِ بهِم، وحِفْظًا لِحَياتِهِم في ظِلِّ مَلِكٍ لا يُظلَم عِندَه أحَدٌ، وهو النَّجاشيُّ مَلِكُ الحَبَشةِ؛ فكانَتْ أوَّلَ هِجْرةٍ في الإسلامِ.
وفي هذا الحَديثِ تُخبِرُ أُمُّ سَلَمةَ - رضِيَ اللهُ عنها- في شَأنِ هِجْرتِهِم إلى بِلادِ النَّجاشيِّ، "فلمَّا رَأَتْ قُرَيشٌ ذلِكَ" هِجْرةَ المُسلِمينَ إلى الحَبَشةِ، "اجتَمَعوا على أنْ يُرسِلوا إليه" اتَّفَقوا أنْ يَبعَثوا في شَأنِ هؤلاءِ الصَّحابةِ رَجُلَينِ صُلبَينِ قَويَّينِ صاحِبَيْ حُجَّةٍ ولِسانٍ وبَيانٍ، حتَّى يَفضَحا أمْرَ المُهاجِرةِ عِندَ النَّجاشيِّ؛ فيرُدَّ المُسلِمينَ معهم، "فبَعَثوا عمْرَو بنَ العاصِ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي ربيعةً"، وكان ذلِكَ قَبلَ أنْ يَدخُلَ عمْرٌو وعبدُ اللهِ في الإسْلامِ، "فجَمَعوا هَدايا له، ولِبَطارِقَتِهِ، فقَدِموا على المَلِكِ، وقالوا: إنَّ فِتْيةً منَّا سُفَهاءَ"، وهذا تَقْليلٌ لِشَأنِهِم عِندَ النَّجاشيِّ، "فارَقوا دِينَنا" تَرَكوا دِينَهُم الَّذي كانَ على عِبادةِ الأصْنامِ، "ولم يَدخُلوا في دِينِكَ"، ولم يَتَّبِعوا دِينَ النصرانية الَّذي أنتَ عليه لمَّا جاؤُوا إلى أرْضِ الحَبَشةِ، "وجاؤُوا بدِينٍ مُبتَدَعٍ لا نَعرِفُهُ، ولَجَؤُوا إلى بِلادِكَ" مُهاجِرينَ لاجِئينَ "فبَعَثَنا إليكَ لِترُدَّهُم" تُرجِعُهم إلى بِلادِهِم وأهْليهم "فقالتْ بَطارِقَتُهُ: صَدَقوا أيُّها المَلِكُ"، وافَقوا مَبْعوثي قُرَيشٍ فيما قالوهُ، والبَطارِقةُ: خَواصُّ الدَّولةِ، وأهْلُ الرَّأيِ والشُّورى، "فغَضِبَ" النَّجاشيُّ، "ثُمَّ قالَ: لا لِعَمرُ اللهِ" وهذا قَسَمٌ بالله، "لا أرُدُّهُم إليهم حتَّى أُكلِّمَهم" أعرِفُ مَقالَتَهُم وأسمَعُهُم قَبلَ الحُكمِ عليهم، "قَومٌ لَجَؤوا إلى بِلادي، واخْتاروا جِواري"، وعاشوا في أرْضي تحتَ حِمايَتي، "فلم يكُنْ شَيءٌ أبغَضَ إلى عمْرٍو وابنِ أبي رَبيعةَ مِن أنْ يَسمَعَ المَلِكُ كَلامَهُم"؛ لأنَّهم يَعلَمون أنَّه حقٌّ، وفيه حُجَّةٌ لِمَن يَسمَعُهُ من العُقَلاءِ، "فلمَّا جاءَهُم رَسولُ النَّجاشيِّ، اجتَمَعَ القَومُ" يَقصِدُ بِهُمُ المُسلِمينَ، "وكانَ الَّذي يُكلِّمُهُ جَعفَرُ بنُ أبي طالِبٍ، فقالَ النَّجاشيُّ: ما هذا الدِّينُ؟ قالوا: أيُّها المَلِكُ، كُنَّا قَومًا على الشِّركِ" نُشرِكُ باللهِ في عِبادَتِهِ، "نَعبُدُ الأوْثانَ"، وهي كُلُّ ما عُبِدَ من الأحْجارِ والأصْنامِ، "ونَأكُلُ المَيْتةَ" رَغْمَ قَذارَتِها "ونُسيءُ الجِوارَ"، فَكَانوا يُغيرونَ على بَعضِهِم، "ونَستَحِلُّ المَحارِمَ والدِّماءَ" بفِعلِ المُحرَّماتِ وإزْهاقِ الأرْواحِ بغَيرِ حقٍّ، فجعَلَ يُعدِّدُ بُطلانَ دِينِ قُرَيشٍ وما هُمْ عليه، "فبعَثَ اللهُ إلينا نبيًّا من أنفُسِنا" من بيْنِنا ومن قَومِنا، "نَعرِفُ وَفاءَهُ وصِدقَهُ وأمانَتَهُ" من أخْلاقِهِ قَبلَ البَعْثةِ والرِّسالةِ "فدَعانا إلى أنْ نعبُدَ اللهِ وَحْدَهُ"، ولا نَعبُدُ معه شَيئًا "ونَصِلُ الرَّحِمَ" البِرَّ والإحْسانَ إلى الأقارِبِ "ونُحسِنُ الجِوارَ" بحُسنِ المُعامَلةِ للجارِ القَريبِ والبَعيدِ، وعَدَمِ الإغارةِ على الجِيرانِ "ونُصلِّي، ونَصومُ"، فكانَ جَعفَرٌ يُعدِّدُ من فَضائِلِ الإسلامِ ومَكارِمِهِ، فقالَ النَّجاشيُّ: "فهَلْ مَعَكم شَيءٌ ممَّا جاءَ به؟" يَقصِدُ بذلِكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والقُرآنَ الَّذي أنزَلَ عليه، قالتْ أُمُّ سَلَمةَ رضِيَ اللهُ عنها: "وقد دَعا أساقِفَتَهُ"، وهُمْ رِجالُ الدِّينِ المسيحيِّ، "فأمَرَهم، فنَشَروا المصاحِفَ حَولَهُ" فَتَحوا كُتُبَهم، وما فيها من الصُّحُفِ حَولَ النَّجاشيِّ، "فقالَ لهم جَعفَرٌ: نَعَمْ، فقَرَأَ عليهم صَدرًا من سُورةِ {كهيعص}" قرَأَ أوَّلَ سُورةِ مَريَمَ، "فبَكَى -واللهِ- النَّجاشيُّ، حتَّى أخضَلَ لِحيَتَهُ" بلَّلَ شَعْرَ لِحيَتِهِ بالدُّموعِ، "وبَكَتْ أساقِفَتُهُ حتَّى أخْضَلوا مَصاحِفَهُم، ثُمَّ قالَ: إنَّ هذا الكَلامَ لَيَخرُجُ من المِشْكاةِ الَّتي جاءَ بها مُوسى" بمَعْنى أنَّهما من نَفسِ المَصدَرِ الإلَهيِّ، وأنَّ مَصدَرَهما واحِدٌ، "انطَلِقوا راشِدينَ" غَيرَ خائِفينَ "لا واللهِ، لا أرُدُّهم عليكم، ولا أُنعِمُكُم عَينًا"، أي: لا أَفعلُ ذلك ولا أَسرُّكم به، ورفَضَ النَّجاشيُّ طلَبَ عمْرِو بنِ العاصِ، وعَبدِ اللهِ بنِ أبي ربيعةَ، فلم يُرجِعِ المُهاجِرينَ إلى قُرَيشٍ، "فخَرَجَا مِن عِندِهِ، فقال عمْرُو: لآتِيَنَّهُ غدًا بما أستأصِلُ به خَضْراءَهُم"، يَتوعَّدُهُم عمْرٌو أنْ يَتكلَّمَ مع النَّجاشيِّ مرَّةً أُخرى؛ لِيُساوِمَهُ فيهم، "فذكَرَ له ما يَقولونَ في عيسى"، فحاوَلَ أنْ يُوقِعَ بيْنَهم وبيْنَ النَّجاشيِّ في أمْرِ عيسى ابنِ مَريَمَ، وذلِكَ أنَّ النَّصارى يَعبُدونَ عيسى ابنَ مَريَمَ عليه السَّلامِ.
وفي روايةِ أحمَدَ فسَأَلَهم النَّجاشيُّ: "ما تَقولونَ في عيسى ابنِ مَريَمَ؟ فقالَ له جَعفَرٌ: نقولُ فيه الَّذي جاءَ به نبيُّنا، هو عبدُ اللهِ ورسولُهُ ورُوحُهُ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَريَمَ العَذْراءِ البَتولِ، فصَدَّقَهم بما قالوا، وقالَ لهم: "اذْهَبوا فأنتُم سُيومٌ بأرْضي" والسُّيوم بلُغةِ الحَبشةِ: الآمِنونَ، "مَن سبَّكَم غُرِّمَ"، بمَعْنى: مَن وقَعَ فيكم بالسِّبابِ حاكَمَهُ النَّجاشيُّ، فمِثلُ هذا باعِثٌ لهم على الاطمِئْنانِ؛ لأنَّ السِّبابَ هو أقَلُّ الأذَى الَّذي قد يقَعُ للغُرَباءِ، "فما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا ذَهَبًا، وإنِّي آذَيتُ رَجُلًا منكم"، والدَّبْرُ بلِسانِ الحَبَشةِ: الجَبَلُ، وقد رَدُّوا على قُرَيشٍ هَداياها كما جاءَ في الرِّواياتِ .