الموسوعة الحديثية


- كنَّا في جِنازةٍ في بَقيعِ الغَرْقدِ، فأتانا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقعَدَ وقعَدْنا حولَه، كأنَّ على رُؤوسِنا الطَّيْرَ، وهو يُلْحَدُ له، فقال: أعوذُ باللهِ مِن عذابِ القبرِ، ثلاثَ مرَّاتٍ، ثمَّ قال: إنَّ العبدَ المؤمِنَ إذا كان في إقبالٍ مِن الآخِرةِ وانقِطاعٍ مِن الدُّنيا، نزَلَت إليه الملائكةُ، كأنَّ على وُجوهِهِمُ الشَّمسَ، معهم كَفنٌ مِن أكفانِ الجَنَّةِ، وحَنوطٌ مِن حَنوطِ الجنَّةِ، فجَلَسوا مِنه مَدَّ البَصرِ، ثمَّ يَجيءُ ملَكُ الموتِ حتَّى يَجلِسَ عندَ رأسِه، فيَقولُ: يا أيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبةُ، اخرُجي إلى مَغفِرةٍ مِن اللهِ ورِضْوانٍ، قال: فتخرُجُ تَسيلُ كما تَسيلُ القَطْرةُ مِن في السِّقاءِ، فيأخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعوها في يدِه طَرْفةَ عينٍ، حتَّى يَأخُذوها فيَجعَلوها في ذلك الكفَنِ وذلك الحَنوطِ، ويخرُجُ منها كأطيَبِ نَفْحةِ مِسكٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ، قال: فيَصعَدون بها، فلا يَمُرُّون بها، يَعْني على مَلأٍ مِن الملائكةِ، إلَّا قالوا: ما هذه الرُّوحُ الطَّيِّبةُ؟ فيَقولون: فلانُ بنُ فلانٍ، بأحسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسمُّونه بها في الدُّنيا، حتَّى يَنتَهوا بها إلى السَّماءِ، فيَستفتِحون له، فيُفتَحُ له، فيُشيِّعُه مِن كلِّ سماءٍ مُقرَّبوها، إلى السَّماءِ الَّتي تَليها، حتَّى يُنتَهى بها إلى السَّماءِ السَّابعةِ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكتُبوا كتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ، وأعيدوه إلى الأرضِ؛ فإنِّي منها خلَقتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرِجُهم تارةً أخرى. قال: فتُعادُ رُوحُه في جسَدِه، فيأتيه ملَكانِ، فيُجلِسانِه، فيَقولانِ له: مَن ربُّك؟ فيَقولُ: ربِّيَ اللهُ، فيَقولانِ له: ما دينُك؟ فيقولُ: دِينيَ الإسلامُ، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجلُ الَّذي بُعِثَ فيكم؟ فيقولُ: هو رسولُ اللهِ، فيَقولانِ له: ما عِلمُك؟ فيقولُ: قرَأتُ كتابَ اللهِ، فآمَنتُ به وصدَّقتُ، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أنْ صدَقَ عبْدي، فأفْرِشوه مِن الجنَّةِ، وافتَحوا له بابًا إلى الجنَّةِ، قال: فيَأتيه مِن رَوْحِها وطيبِها، ويُفسَحُ له في قبرِه مَدَّ بصَرِه، قال: ويأتيه رجلٌ حسَنُ الوجهِ، حسَنُ الثِّيابِ، طيِّبُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبشِرْ بالَّذي يَسُرُّك، هذا يومُك الَّذي كُنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ له: مَن أنتَ؟ فوَجهُك الوجهُ الَّذي يَجيءُ بالخَيرِ، فيَقولُ: أنا عمَلُك الصَّالِحُ، فيقولُ: يا ربِّ، أقِمِ السَّاعةَ؛ حتَّى أرجِعَ إلى أهلي ومالي. قال: وإنَّ العبدَ الكافِرَ إذا كان في انقِطاعٍ مِن الدُّنيا وإقبالٍ مِن الآخرةِ، نزَلَ إليه مِن السَّماءِ مَلائكةٌ سُودُ الوُجوهِ، معَهم المُسوحُ، فيَجلِسون مِنه مَدَّ البصَرِ، ثمَّ يَجيءُ ملَكُ الموتِ حتَّى يَجلِسَ عِندَ رأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفسُ الخبيثةُ، اخرُجي إلى سَخطٍ مِن اللهِ وغَضبٍ، قال: فتَتفرَّقُ في جسَدِه، فيَنتزِعُها كما يُنتزَعُ السَّفُّودُ مِن الصُّوفِ المبلولِ، فيَأخُذُها، فإذا أخَذَها لم يدَعوها في يدِه طَرْفةَ عينٍ، حتَّى يَجعَلوها في تلك المسوحِ، ويَخرُجَ منها كأنتَنِ ريحٍ خَبيثةٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ، فيَصعَدون بها، فلا يَمُرُّون بها على ملأٍ مِن الملائكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيثُ؟ فيَقولون: فلانُ بنُ فلانٍ- بأقبَحِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسمُّونه بها في الدُّنيا- حتَّى يُنتَهى بها إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُستفتَحُ له، فلا يُفتَحُ له، ثمَّ قرَأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكتُبوا كِتابَه في سِجِّينٍ، في الأرضِ السُّفْلى، فتُطرَحُ روحُه طرحًا، ثمَّ قرَأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. فتُعادُ رُوحُه في جسَدِه، ويأتيه ملَكانِ فيُجلِسانِه، فيَقولانِ له: مَن ربُّك؟ فيقولُ: هاه هاه، لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجلُ الَّذي بُعِثَ فيكم، فيَقولُ: هاهْ هاهْ، لا أَدْري، فيُنادي مُنادٍ من السَّماءِ: أنْ كذَبَ، فأَفْرِشوه مِن النَّارِ، وافتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيَأتيه مِن حَرِّها وسَمومِها، ويُضيَّقُ عليه قبرُه، حتَّى تَختلِفَ أضلاعُه، ويأتيه رجُلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثِّيابِ مُنتِنُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبشِرْ بالَّذي يَسوءُك، هذا يومُك الَّذي كُنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ: مَن أنتَ، فوَجهُك الوَجهُ يَجيءُ بالشَّرِّ، فيقولُ: أنا عمَلُك الخبيثُ، فيَقولُ: ربِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ!
الراوي : البراء بن عازب | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج شرح الطحاوية | الصفحة أو الرقم : 573 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه أبو داود (4754) باختلاف يسير، والنسائي (2001) مختصراً، وأحمد (573) واللفظ له

خرَجْنا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ في جِنازةِ رجلٍ منَ الأنصارِ، فانتَهينا إلى القبرِ ولمَّا يُلحَدْ، فجلسَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ وجَلَسنا حولَهُ كأنَّما على رءوسِنا الطَّيرُ، وفي يدِهِ عودٌ ينْكتُ بِهِ في الأرضِ، فرفعَ رأسَهُ، فقالَ: استَعيذوا باللَّهِ من عذابِ القبرِ مرَّتينِ، أو ثلاثًا، زادَ في حديثِ جريرٍ هاهنا وقالَ: وإنَّهُ ليسمَعُ خفقَ نعالِهم إذا ولَّوا مدبرينَ حينَ يقالُ لَهُ: يا هذا، مَن ربُّكَ وما دينُكَ ومن نبيُّكَ ؟ قالَ هنَّادٌ: قالَ: ويأتيهِ ملَكانِ فيُجلِسانِهِ فيقولانِ لَهُ: مَن ربُّكَ ؟ فيقولُ: ربِّيَ اللَّهُ، فيقولانِ: ما دينُكَ ؟ فيقولُ: دينيَ الإسلامُ، فيقولانِ لَهُ: ما هذا الرَّجلُ الَّذي بُعِثَ فيكم ؟ قالَ: فيقولُ: هوَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، فيقولانِ: وما يُدريكَ ؟ فيقولُ: قرأتُ كتابَ اللَّهِ فآمنتُ بِهِ وصدَّقتُ زادَ في حديثِ جريرٍ فذلِكَ قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يُثبِّتُ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا فينادي منادٍ منَ السَّماءِ: أن قَد صدقَ عَبدي، فأفرِشوهُ منَ الجنَّةِ، وافتَحوا لَهُ بابًا إلى الجنَّةِ، وألبسوهُ منَ الجنَّةِ قالَ: فيأتيهِ من رَوحِها وطيبِها قالَ: ويُفتَحُ لَهُ فيها مدَّ بصرِهِ قالَ: وإنَّ الْكافرَ فذَكرَ موتَهُ قالَ: وتعادُ روحُهُ في جسدِهِ، وياتيهِ ملَكانِ فيُجلسانِهِ فيقولانِ: من ربُّكَ ؟ فيقولُ: هاهْ هاهْ هاهْ، لا أدري، فيقولانِ لَهُ: ما دينُكَ ؟ فيقولُ: هاهْ هاهْ، لا أدري، فيقولانِ: ما هذا الرَّجلُ الَّذي بُعِثَ فيكُم ؟ فيقولُ: هاهْ هاهْ، لا أدري، فُينادي منادٍ منَ السَّماءِ: أن كذَبَ، فأفرشوهُ منَ النَّارِ، وألبِسوهُ منَ النَّارِ، وافتَحوا لَهُ بابًا إلى النَّارِ قالَ: فيأتيهِ من حرِّها وسمومِها قالَ: ويضيَّقُ عليْهِ قبرُهُ حتَّى تختلِفَ فيهِ أضلاعُهُ زادَ في حديثِ جريرٍ قالَ: ثمَّ يقيَّضُ لَهُ أعمى أبْكَمُ معَهُ مِرزبَةٌ من حديدٍ لو ضُرِبَ بِها جبلٌ لصارَ ترابًا قالَ: فيضربُهُ بِها ضربةً يسمَعُها ما بينَ المشرقِ والمغربِ إلَّا الثَّقلينِ فيَصيرُ ترابًا قالَ: ثمَّ تعادُ فيهِ الرُّوحُ
الراوي : البراء بن عازب | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح أبي داود
الصفحة أو الرقم: 4753 | خلاصة حكم المحدث : صحيح

التخريج : أخرجه أبو داود (4753) واللفظ له، والنسائي (2001)، وابن ماجه (1549) مختصراً، وأحمد (18557) باختلاف يسير


أَرسلَ اللهُ تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَشيرًا ونذيرًا، فَبشَّرَ مَن آمَنَ وعَمِلَ صالحًا بالخيرِ والنَّعيمِ عند اللهِ، كما حذَّرَ وأنذَرَ مَن كَفرَ مِن العذابِ والمهانةِ بعد المَوتِ عند الله، وبَيَّنَ أنَّ القَبر أوَّلُ مَنازلِ الآخِرةِ، وفيه يَلْقى المَيِّتُ أوَّلَ دَرجاتِ الحِسابِ.
وفي هذا الحديث يَحكي البَراءُ بن عازِب الأنْصاري رضِيَ اللهُ عنه، فيقولُ: «خَرَجْنا مع رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جِنازةِ رَجُلٍ من الأنْصارِ»؛ لِتشْييعِها إلى القَبرِ، «فانْتَهَينا إلى القَبرِ وَلَمَّا يُلَحَدْ»، أي: وَصَلْنا وَلم يكُن اللَّحدُ جَاهزًا، وكانوا لا يَزالونَ يَحفِرونَه، واللَّحْدُ: حُفرةٌ في جانِبِ القَبرِ؛ بحيثُ لا يكونُ المَيِّتُ تحتَ فَتحةِ القَبرِ مُباشَرةً، قال: «فجَلسَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجَلسْنا حَولَه كَأنَّما عَلى رُؤوسِنا الطَّيرُ»، أي: جَلسْنا في هُدوءٍ وصَمتٍ وسَكينةٍ ووقارٍ تَامٍّ، «وفي يَدِه عُودٌ يَنكُتُ به في الأرْضِ»، أي: كان في يَدِه عَصًا صَغيرةٌ يَضرب بها في الأرضِ كأنَّه مَهمومٌ بِأمرٍ، «فَرَفع رَأسَه فَقال: اسْتَعيذوا بِاللهِ من عَذابِ القَبرِ- مرَّتينِ أو ثَلاثًا-»، أي: اطْلُبوا من اللهِ الحِمايةَ والوِقايةَ من العذابِ الذي يكون في القَبرِ بعدَ الدَّفنِ، وكرَّر هذا مَرَّتَينِ أو ثلاثَ مرَّاتٍ؛ للتأكيدِ.
وقد رُوي هذا الحديث من طَريقَين، وجَمعَ المُصنِّفُ بينهما هنا، وبَيَّنَ ما قالَه كُلُّ رَاوٍ في رِوايَته، فقال: «زادَ في حَديثِ جَريرٍ ها هنا»؛ وهو: جريرُ بنُ عَبدِ الحَميدِ الضَّبيُّ الكُوفيُّ، أحَدُ رُواةِ هذا الحديث- وقال: «وإنَّه ليَسْمَعُ خَفقَ نِعالِهم إذا وَلَّوْا مُدبِرين»، أي: وإنَّ المَيتَ ليَسمَعُ صَوتَ ضَربِ الأرْجُلِ بالأحْذِيةِ عِندَ انْصرافِ النَّاس مِن الدَّفنِ، «حين يُقالُ له: يا هذا، مَن رَبُّكَ؟ وما دِينُكَ؟ ومَن نَبيُّك؟»، وهذه هي الأسئلةُ الثَّلاثةُ التي تكونُ في القَبرِ، وهي السُّؤالُ عن الرَّبِّ، وعن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعنِ الدِّين، تُطرَحُ على المَيِّتِ عِند أوَّلِ دُخولِه القَبرِ، وعند انْصرافِ النَّاسِ من الدَّفنِ، وتُطرَحُ للاخْتبارِ والامْتحانِ.
«قال هَنَّاد»؛ وهو: ابْنُ السِّرِّي، أحَدُ رُواةِ هذا الحديثِ، في رِوايَتِه مُفسِّرًا ومُفصِّلًا هذِه الأسئلةَ: «ويَأتيه مَلَكانِ فَيُجلِسانِه، فَيقولانِ له: مَن رَبُّكَ؟ فيقول: رَبي اللهُ، فيقولان له: ما دِينُك؟ فيقول: دِيني الإسلامُ، فيَقولان له: ما هذا الرَّجُلُ الذي بُعثَ فيكم؟ قال: فيقول: هو رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فيقولان: وما يُدْريك؟»، أي: ما سَببُ عِلمك ودِرايَتك برِسالتِه، أو ما سَببُ إقْرارِك باللهِ ورَسوله ودينِه، أمُجرَّد التَّقليد في التَّصديق، أو بِطريق البُرهان والتَّحقيقِ؟ «فيقول: قرَأتُ كِتابَ اللهِ فَآمَنتُ به»، أي: قَرأتُ القُرآنَ، أو عَلمْتُ ما فيه فآمَنتُ به وبما فيه، وفيه الإيمانُ باللهِ ورسُلِه وكُتُبِه وغير ذلك، «وَصدَّقْتُ»، أي: وصَدَّقْتُ تَصديقًا قَلبيًّا جَازمًا، وهذه الأسئلةُ تكونُ بهذه الإجاباتِ إذا كان الميِّتُ مُؤمنًا، قال: زادَ في حديثِ جَرير: فذلك قولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، أي: يُوفِّقُ اللهُ الذينَ آمَنوا به في الدُّنيا ويَهديهِم إلى صَوابِ الجَوابِ والحَقِّ في الدُّنيا، وعندَ السُّؤال في القَبرِ، وعِند اللهِ تعالى.
قال المصنِّفُ أبو داود: «ثُمَّ اتَّفَقا»، أي: الرَّاوِيانِ في رِوايتِهما للحديثِ، فقَالا: «فَيُنادي مُنادٍ من السَّماءِ»، وهو الحقُّ عَزَّ وجلَّ: «أنْ قدْ صَدَقَ عَبدِي»، أي: صَدقَ في أجْوبَتِه وقد كان يُؤمِنُ بذلك في حَياتِه، «فأفْرِشوه من الجَنَّةِ»، أي: اجْعَلوا له فِراشًا من الجنة يَجْلسُ عليه ويَتنَعَّم، «وافْتَحوا له بابًا إلى الجَنَّةِ، وألبِسوه من الجَنَّةِ»؛ جزاءً له على إيمانِه، فَيرْفُلُ في النَّعيم، قال: «فيأتيه من رَوحِها وطيبِها»، أي: مِن نَسيمِها ورَائحَتها الزَّكيَّةِ العَطرةِ، «قال: ويُفتَح له فيها مَدَّ بَصَرِه»، تَوسِعةً عَليه وَتنعيمًا له في قَبرِه.
ثُمَّ بيَّن حالَ الكافِر «قال: وإنَّ الكافِرَ، فَذكر مَوتَه»، أي: إذا مات ودُفِنَ وانْصرفَ عنه النَّاسُ، «قال: وتُعادُ رُوحُه في جَسدِه ويأتيه مَلكان فَيُجلِسانِه فيقولان: مَن رَبُّكَ؟ فيقول: هاه هاه هاه!! لا أدري»، وهذا قولُ الحَيرانِ الذي لا يَدْري ما يقولُه، «فيقولان له: ما دِينُكَ؟ فيقول: هاه هاه!! لا أدري، فيقولان: ما هذا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه!! لا أدري. فيُنادي مُنادٍ من السَّماءِ: أنْ كَذَبَ»، أي: كذَب في قَولِه لا أدْري؛ لأنَّ اللهَ عَرَّفَه الحَقَّ، وجَاءه خَيرُ الرُّسُل، وعَلِمَ أنَّ الإسلامَ هو الحَقُّ، ولكنَّه كَذَّبَ ذلك كُلَّه في حَياتِه، «فَأفْرِشوه من النَّارِ، وألبِسوه من النَّارِ»، أي: تُحيطُه النَّارُ من تَحتِه وحَولِه كُلِّه كأنَّه يَلبَسُها، «وافْتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، قال: فَيأتيه مِن حَرِّها وسَمومِها»؛ والسَّمومُ شِدَّةُ حَرارَتها، فكَأنَّه يُزادُ له الحَرُّ والعَذابُ؛ تَعذيبًا له على كُفرِه في حَياتِه مع وضوحِ الدَّلائلِ وعِلمِه بها، «قال: ويُضَيَّقُ عليه قَبرُه حتى تَخْتَلفَ فيه أضْلاعُه»، أي: تَدخل أضْلاعُ صَدرِه بعضُها في بَعضٍ مِن شِدَّة التَّضييقِ عليه في قَبرِه.
قال: «زادَ في حديثِ جَرير قال: ثُمَّ يُقَيَّضُ له أعْمى أبْكَمُ-» لا يَراهُ ولا يَسمَعُ صُراخَه، فلا تَأخُذُه به رَحْمةٌ ولا شَفَقةٌ، «معه مِرْزَبَةٌ من حَديدٍ»، أي: معه مِطْرقةٌ من الحَديدِ، «لو ضُرِبَ بها جَبلٌ لصارَ تُرابًا»؛ لقُوَّتِها وشِدَّةِ الضَّربِ بها، «قال: فَيضْرِبُه بها ضَربةً يَسمَعُها ما بين المَشرِق والمَغرِب إلا الثَّقلَين»، أي: يَسمَعُ صُراخَه كُلُّ الخَلائقِ إلَّا الإنسَ والجِنَّ؛ فإنَّ اللهَ جعَلَ بينهما وبين هذا العذابِ حِجابًا فلا يَسْمعونَه، «فَيصيرُ تُرابًا»، من شِدَّة الضَّربةِ التي تَسحَقُه فَيتَحوَّلُ إلى تُرابٍ، قال: «ثُمَّ تُعادُ فيه الرُّوحُ»؛ وذلك لِيعادَ له العَذابُ.
وفي الحديثِ: التَّنبيهُ إلى فَضلِ الإيمان ومَغبَّةِ الكُفرِ في القَبرِ وبَعدَ المَوتِ.
وفيه: بيانُ أنَّ في القَبر نَعيمًا للمُؤمنِ، وعَذابًا للكافِرِ( ).