الفَصلُ الثَّالِثُ: الشَّفاعةُ
الشَّفاعةُ من المسائِلِ المتَّفَقِ عليها من الأمَّةِ، وقد وقع الخلافُ فيمن ثبتَت له الشَّفاعةُ:
ف
المُعتَزِلةُ: ترى أنَّ الشَّفاعةَ للتَّائِبين من المُؤمِنين خاصَّةً، وأنَّها لرَفعِ الدَّرَجاتِ، وذلك بناءً على إيمانِهم بالوعدِ والوعيدِ، وهو أحَدُ أُصولِهم الخمسةِ، وأنَّ المؤمِنَ إذا خرج من الدُّنيا في طاعةٍ وتوبةٍ استحَقَّ الثَّوابَ، وإذا خرج ولم يَتُبْ خُلِّد في النَّارِ.
وعِندَ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ لأهلِ الكبائِرِ وغَيرِهم شفاعةً، وإن لم يكونوا تائِبين، وأنَّها تكونُ لزيادةِ الثَّوابِ، ولدَرءِ العِقابِ
.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (لا خِلافَ بَينَ الأُمَّةِ في أنَّ شفاعةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثابتةٌ للأُمَّةِ، وإنَّما الخِلافُ في أنَّها تثبُتُ لِمَن؟ فعِندَنا أنَّ الشَّفاعةَ للتَّائِبين من المُؤمِنين، وعِندَ
المُرجِئةِ أنَّها للفُسَّاقِ من أهلِ الصَّلاةِ)
.
ومن الأدِلَّةِ التي استدَلَّ بها
المُعتَزِلةُ: أنَّ الرَّسولَ إذا شَفَع لصاحِبِ الكبيرةِ لا يخلو: إمَّا أن يَشفَعَ أوَّلًا، فإنْ لم يُشَفَّعْ لم يَجُزْ، لأنَّه يقدَحُ بإكرامِه، وإنْ شُفِّعَ فيه لم يَجُزْ أيضًا؛ لأنَّ إثابةَ مَن لا يستَحِقُّ الثَّوابَ قَبيحٌ
.
ومن الأدِلَّةِ النَّقليَّةِ التي استدلُّوا بها: قَولُ اللهِ تعالى:
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة: 48]
، وقَولُ اللهِ تعالى:
مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18]
.
وقَولُه تعالى
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48]
.
فاللهُ تعالى نفى أن يكونَ للظَّالمينَ شَفيعٌ البتَّةَ، ويدُلُّ على ذلك أيضًا قَولُه تعالى:
أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: 19]
.
وخُلاصةُ مناقَشةِ أهلِ السُّنَّةِ للمُعتَزِلةِ في ذلك أن يقالَ:
إنَّ هذه الأدِلَّةَ يُرادُ بها شيئانِ:
أحَدُهما: أنَّها لا تنفَعُ المُشرِكين، كما قال اللهُ تعالى في نَعتِهم:
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 42- 48] ، فهؤلاء نفى عنهم نَفْعَ شفاعةِ الشَّافعينَ؛ لأنَّهم كانوا كُفَّارًا.
والثَّاني: أنَّه يرادُ بذلك نفيُ الشَّفاعةِ التي يُثبِتُها أهلُ الشِّركِ ومَن شابهَهم من أهلِ البِدَعِ من أهلِ الكِتابِ والمُسلِمين، الذين يظنُّون أنَّ للخَلقِ عندَ اللهِ من القَدْرِ أن يشفَعوا عِندَه بغيرِ إذنِه كما يشفَعُ النَّاسُ بعضُهم عِندَ بَعضٍ، فيَقبَلُ المشفوعُ إليه شفاعةَ شافِعٍ؛ لحاجتِه إليه رغبةً أو رهبةً، وكما يعامِلُ المخلوقُ المخلوقَ بالمعاوَضةِ
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (قد ثبت بالسُّنَّةِ المُستفيضةِ بل المتواتِرةِ، واتِّفاقِ الأمَّةِ: أنَّ نبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الشَّافِعُ المشفَّعُ، وأنَّه يَشفَعُ في الخلائِقِ يومَ القيامةِ، وأنَّ النَّاسَ يَستَشفِعون به يَطلُبون منه أن يَشفَعَ لهم إلى رَبِّهم، وأنَّه يَشفَعُ لهم
. ثمَّ اتَّفق أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّه يشفَعُ في أهلِ الكبائِرِ، وأنَّه لا يُخلَّدُ في النَّارِ مِن أهلِ التَّوحيدِ أحدٌ، وأمَّا
الخوارِجُ و
المُعتَزِلةُ فأنكَروا شفاعتَه لأهلِ الكبائِرِ، ولم يُنكِروا شفاعتَه للمُؤمِنين، وهؤلاء مُبتَدِعةٌ ضُلَّالٌ، وفي تكفيرِهم نِزاعٌ وتفصيلٌ)
.
وقد تقدَّم الكلامُ عن الشَّفاعةِ عِندَ
المُعتَزِلةِ بالتَّفصيلِ في المَبحَثِ الثَّالِثِ مِن الفَصلِ الثَّالِثِ في البابِ الثَّالِثِ: (الأُصولُ الخَمسةُ للمُعتَزِلةِ).