موسوعة الفرق

المَطلبُ السَّابعُ: تَعظيمُ القُبورِ


أمَر البَريلَويَّةُ ببناء المَقابِرِ والمَشاهِدِ وجَعَلوا أنفُسَهم سَدَنَتَها، ثمَّ أوجَبوا تَقديمَ النُّذورِ والقَرابينِ إليها، ثمَّ أقاموا عليها الأعيادَ والأعراسَ، وفرَضوا على النَّاسِ الحُضورَ والمَجيءَ إليها بالسَّجاجيدِ والقَناديلِ والشُّموعِ والزُّيوتِ والعُطورِ والحُلوانِ، والسَّتائِرِ والقَرابينِ وما إلى ذلك منَ الأشياءِ.
قالوا: (إنَّ أولياءَ اللهِ هم أبوابُ رَحمةِ الرَّبِّ، ويَنبَغي طَلَبُ الرَّحمةِ منَ الأبوابِ، ولأجلِ ذلك تُزارُ المَشاهِدُ والمَقابِرُ حتَّى تُؤخَذَ الرَّحمةُ، كما أنَّ زَكَريَّا عليه السَّلامُ دَعا عِندَ وليَّةٍ من أولياءِ اللهِ -مَريَمَ- ليَهبَه اللهُ ولدًا صالحًا هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران: 38] ؛ لأنَّ الدُّعاءَ عِندَ الأولياءِ يُقبَلُ) !
وقالوا أيضًا: (إنَّ الأعيادَ على القُبورِ سَبَبٌ لحُضورِ النَّاسِ عِندَ الأولياءِ، وهي من شَعائِرِ اللَّهِ، واللهُ حَرَّضَ المُؤمنينَ على تَعظيمِ الشَّعائِرِ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] ، وفيها فوائِدُ لا تُعَدُّ ولا تُحصى) .
وقال أحَدُ تَلاميذِ البَريلَويِّ: (إنَّ عُرسَ الأولياءِ وقِراءةَ القُرآنِ والفاتِحةِ، والوَعظَ وإيصالَ الثَّوابِ مُوجِبٌ للبَرَكاتِ؛ لأنَّ الأولياءَ أحياءٌ في قُبورِهم، وقد زادَت قوَّةُ عِلمِهم وإدراكِهم وسَمعِهم وبَصَرِهم) .
وقال آخَرُ: (إنَّ الأعراسَ والأعيادَ على القُبورِ يَعني اجتِماعَ النَّاسِ على قُبورِ أهلِ اللهِ ومَشاهِدِهم في يَومٍ مُعَيَّنٍ سُنَّةَ سَيِّدِ الأنبياءِ... ومن ثَمَّ طَبخُ الطَّعامِ وتَنويرُ المَقامِ وبَسطُ الفُرُشِ سَبَبٌ للبَرَكاتِ وموجِبٌ للثَّوابِ، وإنَّها لثابتةٌ بالشَّريعةِ ومن سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُخالَفتُها مُخالَفةُ الرَّسولِ) .
وقالوا: (إنَّ الصَّلاةَ في مَشاهدِ الأولياءِ ومَزاراتِهم للاستِظهارِ والاستِمدادِ بأرواحِها للحُصولِ على أثَرٍ من آثارِ عِباداتِهم يَمينَ القُبورِ أو يَسارَها موجِبٌ لنُزولِ البَرَكاتِ وحُصولِها) ، (وأمَّا قَولُ الوهَّابيَّةِ: إنَّ تَقبيلَ القُبورِ شِركٌ، فهو من غُلوِّهم ومُبالغاتِهم) ، (وإنَّ النَّذرَ لغَيرِ اللهِ لا يَدخُلُ في العِبادةِ ولا يَصيرُ الإنسانُ مُشرِكًا ما دامَ لا يَعبُدُ غَيرَ اللَّهِ؛ فإنَّ الشِّركَ أن يَعتَقِدَ أنَّ غَيرَ اللهِ مَعبودٌ، وأمَّا دونَ ذلك فلا يُقالُ إنَّه شِركٌ وفاعِلُه أو قائِلُه مُشرِكٌ) .
وأمَّا طَوافُ القُبورِ فإنَّه جائِزٌ مُستَحَبٌّ عِندَ القَومِ، فقالوا: (ولا بَأسَ إن طاف حَولَ القَبرِ لحُصولِ البَرَكاتِ) ؛ (لأنَّ قُبورَ الأولياءِ من شَعائِرِ اللهِ المَأمورِ بها التَّعظيمُ) .
وممَّا قالوه: (إنَّ العُرسَ -أي العيدَ على القَبرِ في يَومٍ مُعَيَّنٍ مَخصوصٍ- سَمِّي عُرسًا؛ لأنَّ ذلك اليَومَ يَزورُ الأولياءُ عَروسَ الكَونِ -أي مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لأنَّهم يَومَ وفاتِهم يَزورونَه ويَرَونَه) .
ثمَّ أفتى أحَدُ عُلماءِ القَومِ فقال: (لا تَجوزُ الصَّلاةُ إلَّا مَن يُقيمُ الأعراسَ ويَقرَأُ الفاتِحةَ، وأمَّا المُخالفونَ لهذه الأشياءِ فلا صَلاةَ خَلفَهم) .
وقد كَتَبَ البَريلَويُّ نَفسَه رِسالةً مُستَقِلَّةً في هذا الشَّأنِ باسم (بَدرُ الأنوار في الآدابِ بالآثارِ).
وقال مُقدِّمُ هذه الرِّسالةِ: (إنَّ آثارَ الأولياءِ هي من شَعائِرِ اللهِ، ومن آياتِ اللهِ التي أمَرَ اللهُ بتَعظيمِها والتَّبريكِ بها) .
وأمَّا البَريلَويُّ فقال: (إنَّ الذي يُنكِرُ تَعظيمَ آثارِ الأنبياءِ والتَّبَرُّكَ بها فإنَّه مُنكِرٌ القُرآنَ والسُّنَّةَ وجاهِلٌ خاسِرٌ، وضالٌّ فاجِرٌ) .
وصِحَّةُ نِسبةِ تلك الآثارِ والقُبورِ إلى أصحابِها لا تَحتاجُ بزَعمِه لدَليلٍ ومُستَنَدٍ، بل يَكفي في ذلك عِندَهم أن تَكونَ نِسبَتُها مَشهورةً بَينَ النَّاسِ .
وممَّا قالوه: إنَّه كما يَجوزُ تَقبيلُ جُدرانِ المَدينةِ والقُبورِ وآثارِ الأنبياءِ والصُّلَحاءِ والعُلماءِ، فيَجوزُ أيضًا تَقبيلُ صُوَرِ هذه الأشياءِ وأمثالِها وتَماثيلِها، بل ويَجِبُ؛ قال البَريلَويُّ: (إنَّ الأرفعَ والأعلى والأجلى بأنَّ عُلماءَ الشَّريعةِ والأئِمَّةَ المُعتَمَدينَ طَبَقةً عن طَبَقةٍ، عنِ الشَّرقِ والغَربِ، منَ العَرَبِ والعَجَمِ كانوا يُصَوِّرونَ النِّعالَ المُطَهَّرةَ والرَّوضةَ المُعَطَّرةَ لسَيِّدِ البَشَرِ، ويُمَثِّلونَها ويُسَطِّرونَها في الكُتُبِ ويُقَبِّلونَها ويَضَعونَها على العُيونِ والرُّؤوسِ وكانوا يَأمُرونَ به) .
(وكانوا يَتَوسَّلونَ بها «أي هذه التَّماثيلِ والصُّورِ» في دَفعِ الأمراضِ وحُصولِ الأغراضِ، ويتحَصَّلون بها عَظيمَ البَرَكاتِ وجَليلَ المَنافِعِ) .
والمَنافِعُ التي تَحصُلُ منها بَيَّنَها البَريلَويُّ نَفسُه بقَولِه: (مَن يوجَدُ عِندَه صورةُ النَّعلِ يُحفَظُ مِن ظُلمِ الظَّالمينَ وشَرِّ الشَّياطينِ وحَسَدِ الحاسِدينَ، وإن أمسَكَتها المَرأةُ بيَدِها اليُمنى في مَخاضِها سَهُلَت عليها الوِلادةُ، ومَن حَفِظَها عِندَه والتَزَمَها عَظُم في أعيُنِ الخَلقِ، وحَصَلت له زيارةُ الرَّوضةِ المُقدَّسةِ، أو زيارةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَنامِه، وإنِ احتفَظَها العَساكِرُ لا يُهزَمونَ، والقَوافِلُ لا يُنهَبونَ، وإن وُضِعَت في السُّفُنِ لا تَغرَقُ، وفي الأموال لا تُسرَقُ، وأيَّةُ حاجةٍ يُتَوسَّلُ بها تُقضى، ولأيَّةِ نيَّةٍ تُعَلَّقُ تُوفَّى، ومَواضِعُ المَرَضِ والوجَعِ لو وُضِعَت عليها تَشفى، ومنَ المَصائِبِ والآلامِ المُهلِكةِ تُنجي) .
وممَّا قالوه: (مَن لم يُمكِنْه زيارةُ الرَّوضةِ فليَزُرْ أمثالَها وليَلثُمْه مُشتاقًا؛ لأنَّه نابَ مَنابَ الأصلِ، كما قد نابَ مِثالُ نَعلِه الشَّريفةِ منابةَ عَينِها في المَنافِعِ والخَواصِّ بشَهادةِ التَّجرِبةِ الصَّحيحةِ) .
وقالوا: إنَّه يَجِبُ على مَن يَزورُ هذه الآثارَ أو أشياءَ تَدُلُّ على تلك الآثارِ أن يَتَصَوَّرَ الرَّسولَ ذا النُّورِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُصَلِّيَ عليه بكَثرةٍ وكَثرةٍ... وكَذلك مَن يَزورُ شَبيهَ الرَّوضةِ المُبارَكةِ فليُعَظِّمْه ويُكرِمْه ويُكثِرِ الصَّلاةَ والسَّلامَ مِثلَما كان يَفعَلُ عِندَ زيارةِ الأصلِ .
ومن سوءِ أدَبِ القَومِ في جَنابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ أنَّهم يوقِّرونَ مِثالَ النَّعلِ ويُعَظِّمونَ المَقابِرَ والمَشاهِدَ، ولكِنَّهم يُسيؤون إلى مَقامِ الرَّبِّ جَلَّ وعَلا؛ حَيثُ قالوا: (يَجوزُ كِتابةُ اسمِ الجَلالةِ في تِمثالِ النَّعلِ، ثمَّ استَدَلَّ برِوايةِ أنَّ الأئِمَّةَ كانوا يَكتُبونَ في ظُهورِ النِّعالِ) !
وقال البَريلَويُّ: (يُستَحَبُّ للزَّائِرِ أن يُقدِّمَ النُّذورَ إلى مَن يَأتي بهذه الآثارِ الشَّريفةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو للوليِّ المُكَرَّمِ المُعَظَّمِ، فيُثابُ المُهدي والآخِذُ لإعانةِ المُسلمينَ؛ حَيثُ أعانَ المَزورُ الزَّائِرينَ بزيارةِ هذه الآثارِ وأعانَ الزُّوَّارُ المزورَ بتَقديمِ النُّذورِ إليه، مِصداقُ قَولِ الرَّسولِ عليه السَّلامُ: ((مَنِ استَطاعَ منكُم أن ينفَعَ أخاه فليَنفَعْه)) ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اللهُ في عَونِ العَبدِ ما دامَ العَبدُ في عَونِ أخيه)) ، وخاصَّةً حينَما يَكونُ أصحابُ الآثارِ والتَّبرُّكاتِ منَ الأشرافِ الكِرامِ؛ لأنَّ خِدمَتَهم سَبَبٌ لحُصولِ الأجرِ والبَرَكاتِ) .
فهذا هو دينُ القَومِ، وهذه هي تَعليماتُهمُ المُخالِفةُ لتَعليماتِ النَّبيِّ الكَريمِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، الذي مَنَعَ أصحابَه وأمَّتَه منَ الغُلوِّ فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَيثُ قال: ((لا تُطروني كما أطرَتِ النَّصارى ابنَ مَريَمَ؛ فإنَّما أنا عَبدُه؛ فقولوا: عَبدُ اللَّهِ ورَسولُه )) .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَستَهوينَّكُمُ الشَّيطانُ، أنا مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللَّهِ عَبدُ اللَّهِ ورَسولُه، ما أُحِبُّ أن تَرفعوني فوقَ مَنزِلتي التي أنزَلني اللهُ)) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((جاء الحق)) لأحمد يار (ص: 335).
  2. (2) يُنظر: ((مواعظ نعيمية)) لأحمد يار (ص: 224).
  3. (3) يُنظر: ((بهار شريعت)) لأمجد علي، الجزء الأول.
  4. (4) يُنظر: رسالة ((المعجزة العظمى المحمدية)) للمراد آبادي المندرجة في ((فتاوى صدر الأفاضل)) (ص: 160).
  5. (5) يُنظر: رسالة ((حاجز البحرين)) للبريلوي المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (2/333).
  6. (6) يُنظر: ((الفتاوى الرضوية)) (10/66).
  7. (7) يُنظر: ((الفتاوى الرضوية)) (10/207) وما بعدها.
  8. (8) يُنظر: ((بهار شريعت)) لأمجد علي (4/133).
  9. (9) يُنظر: ((علم القرآن)) لأحمد يار (ص: 36).
  10. (10) يُنظر: ((حكايات رضوية)) للبركاتي (ص: 146).
  11. (11) يُنظر: ((الحق المبين)) للكاظمي (ص: 74).
  12. (12) يُنظر: مقدمة ((بدر الأنوار)) (ص: 8).
  13. (13) ((بدر الأنوار)) (ص: 12).
  14. (14) يُنظر: ((بدر الأنوار)) للبريلوي (ص: 43).
  15. (15) ((أبرّ المقال)) (ص: 143).
  16. (16) ((بدر الأنوار)) (ص: 38).
  17. (17) ((بدر الأنوار)) (ص: 38).
  18. (18) يُنظر: ((أبرّ المقال)) للبريلوي (ص: 148).
  19. (19) يُنظر: ((بدر الأنوار)) للبريلوي (ص: 56).
  20. (20) يُنظر: ((بدر الأنوار)) للبريلوي (ص: 41- 42).
  21. (21) أخرجه مسلم (2199) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما.
  22. (22) أخرجه مسلم (2699) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه بلفظِ: ((واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه)).
  23. (23) يُنظر: ((بدر الأنوار)) (ص: 50- 51).
  24. (24) أخرجه البخاري (3445) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه
  25. (25) أخرجه أحمد (12551) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10077)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) (536) من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((غاية المرام)) (127)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (132)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12551)، وصحَّح إسنادَه محمد بن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (459) وقال: على شرط مسلم، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/611).