المَطلبُ الأوَّلُ: التَّشابُهُ بَيْنَ اليهودِ والشِّيعةِ الإماميَّةِ في تَأويلِ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ
تَتَمَيَّزُ الرِّواياتُ الكثيرةُ في مَصادِرِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ بالتَّأويلِ، وهي قاسِمٌ مُشتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ تلك المَصادِرِ، وهذا التَّأويلُ في تَناوُلِ النُّصوصِ الدِّينيَّةِ له ما يُشبِهُه لدى اليهودِ؛ فإنَّهم لمَّا اضطُرُّوا إلى تَمريرِ أخطاءِ العَهدِ القديمِ اعتَمَدوا على التَّأويلِ، فاتَّبَعَهم في ذلك أتباعُ العَقائِدِ الباطِنيَّةِ المُنتَسِبينَ إلى الإسلامِ، ومِن أسبابِ التَّأويلِ الذي غَلا فيه أصحابُ المَذاهِبِ الباطِنيَّةِ:
1- التَّحَرُّرُ مِن قَيدِ النَّصِّ المُقدَّسِ ابتِغاءَ التَّوفيقِ بَينَه وبَينَ الرَّأيِ الذي يذهَبُ إليه صاحِبُ التَّأويلِ.
2- التَّحَرُّرُ مِن قَيدِ النَّصِّ المُقدَّسِ ابتِغاءَ التَّوفيقِ بَيْنَ ما يُفهَمُ مِن صَريحِ اللَّفظِ وبَينَ ما يقتَضيه العَقلُ.
3- الرَّغبةُ في تَعميقِ ظاهِرِ النَّصِّ المُقدَّسِ ابتِغاءَ مَزيدٍ مِنَ العُمقِ في الآراءِ التي يحتَويها.
ومِن تلك الدَّواعي يتَبَيَّنُ أنَّ ما يُلجِئُ إلى التَّأويلِ لدَيهم هو الاضطِرارُ إلى الأخذِ بنَصٍّ يُعَدُّ مقدَّسًا أو مقيَّدًا، ولولا هذا لما كان ثَمَّ أيُّ داعٍ إلى التَّأويلِ
.
وقد عُرِف التَّأويلُ الرَّمزيُّ أو الباطِنيُّ لدى اليهودِ، والذي انتَقَل إليهم مِنَ الفلسَفةِ اليونانيَّةِ.
قال عَبدُ الرَّحمَنِ بدَوي: (انتَقَل التَّأويلُ الرَّمزيُّ إلى اليهودِ على يدِ فِيلُونَ اليهوديِّ
في القَرنِ الأوَّلِ الميلاديِّ الذي يُعَدُّ مِن أكبَرِ مُمَثِّلي النَّزعةِ إلى التَّأويلِ في العَصرِ القديمِ، وإن كان قد سَبَقَه في اليهوديَّةِ كثيرونَ، أوَّلوا الكُتُبَ المُقدَّسةَ في العَهدِ القديمِ تأويلًا رَمزيًّا، وهو نَفسُه يُشيرُ إليها، لكِنَّ فِيلُونَ ذَرَف عليهم بأن جَعل مِنَ التَّأويلِ مذهبًا قائمًا برَأسِه، ومنهجًا في الفهمِ)
.
والذين قالوا بالتَّأويلِ قَبلَ فِيلُونَ هم (يهودُ الإسكندَريَّةِ؛ إذ كانوا يشرَحونَ التَّوراةَ شرحًا رَمزيًّا على غِرارِ شَرحِ الفِيثاغوريِّين والأفلاطونيِّينَ والرُّواقيِّينَ لقِصَصِ الميثولوجيا وعِباداتِ الأسرارِ)
، وكانت تلك طَريقَتَهم لجَعلِها مَقبولةً لدى اليونانِ، ويوجَدُ في نُسخةِ التَّوراةِ السَّبعينيَّةِ
آثارٌ مِن هذا الاتِّجاهِ الرَّمزيِّ الذي انتَشَرَ بَيْنَ يهودِ الإسكندَريَّةِ
؛ ولذلك فإنَّ بَعضَ اليهودِ كانوا لا يقرَؤونَ التَّوراةَ إلَّا عَبرَ التَّرجَمةِ اليونانيَّةِ
.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (قال تعالى في صفةِ المغضوبِ عليهم:
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء: 46] ووصَفَهم بأنَّهم:
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران: 78] ، والتَّحريفُ قد فُسِّرَ بتَحريفِ التَّنزيلِ وبتَحريفِ التَّأويلِ، فأمَّا تَحريفُ التَّأويلِ فكثيرٌ جِدًّا، وقد ابتُلِيَت به طَوائِفُ مِن هذه الأُمَّةِ)
.
ويُحتَمَلُ أن يكونَ التَّأويلُ الرَّمزيُّ لدى الشِّيعةِ قد انتَقَل أوَّلًا إلى السَّبَئيَّةِ عن طَريقِ
عَبدِ اللهِ بنِ سَبَأٍ اليَهوديِّ، ولا يُستَبعَدُ اطِّلاعُه على حَرَكةِ التَّأويلِ عِندَ اليهودِ قَبلَ فِيلُونَ وبَعدَه. ويُؤَيِّدُ هذا الاحتِمالَ ما قامَ به
ابنُ سَبَأٍ من عَرضٍ لأفكارٍ يهوديَّةٍ كالرَّجعةِ والوصيَّةِ، واستِنادِه فيهما على التَّأويلِ، وجاءَ مِن بَعدِه تِلميذُه ابنُ حَربٍ ونَقَل بَعضًا مِنَ الفِكرِ اليهوديِّ وقامَ بتَأويلِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ تُؤَيِّدُ دَعواه.
وبَيانُ بنُ سَمعانَ صاحِبُ الفِرقةِ البَيانيَّةِ مِنَ الشِّيعةِ كان ذا أصلٍ يهوديٍّ، وقال بالتَّأويلِ، ومِن ذلك تَأويلُه قَولَ اللهِ تعالى:
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138] بأنَّه بيانُ بنُ سَمعانَ!
واتَّصَل اليهودُ بفِرقةِ الكَيسانيَّةِ الشِّيعيَّةِ اتِّصالًا وثيقًا، وكان التَّأويلُ مِنَ الأُسُسِ الهامَّةِ لدى الكَيسانيَّةِ، والمُغيرةُ بنُ سَعيدٍ البَجليُّ كان على صِلةٍ باليهودِ، ومِن ذلك تَأويلُه قَولَ اللهِ سُبحانَه:
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] بما ذَكرَه عنه عَبدُ الأعلى بنُ أبي المَساوِرِ قال: سَمِعتُ المُغيرةَ الكذَّابَ يقولُ: (إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعَدلِ: عَليٍّ، والإحسانِ:
فاطِمةَ، وإيتاءِ ذي القُربى:
الحَسَنِ والحُسَينِ، وينهى عن الفحشاءِ:
أبي بَكرٍ، والمُنكَرِ: عُمَرَ، والبَغيِ: عُثمانَ)
.
وقد قال عنه المُعافِريُّ: (إنَّه جَعَل لكُلِّ آيةٍ في كِتابِ اللهِ تَفسيرًا، ولكُلِّ حَديثٍ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تأويلًا، وزَخرَف الأقوالَ، وضَرَبَ الأمثالَ، وجَعَل لآيِ القُرآنِ شكلًا يوازيه، ومَثَلًا يُضاهيهـ)
.
وقد استَخدَمَ عَبدُ اللهِ بنُ مَيمونٍ التَّأويلَ فأدخَله إلى الباطِنيَّةِ وتَوسَّعَ فيه، وكان أبوه مَيمونٌ قد وضَعَ كِتابًا في التَّأويلِ الباطِنيِّ، وأخَذَ يُؤَوِّلُ الآياتِ القُرآنيَّةَ بما يتَّفِقُ مَعَ عَقيدَتِه في إمامةِ إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ وابنِه مُحَمَّدٍ، وأسبَغَ عليهما قداسةً كُبرى، وأضاف ابنُ مَيمونٍ إلى ما فعَله أبوه في هذا الاتِّجاهِ
.