موسوعة الفرق

المَطلبُ الرَّابعُ: حُجِّيَّةُ الأئِمَّةِ على القُرآنِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ


لأنَّ اعتِقادَهم في الإمامةِ هو أصلُ الأُصولِ قالوا بعَدَمِ حُجِّيَّةِ القُرآنِ إلَّا بالإمامِ.
قال الكُلينيُّ: (القُرآنُ لا يكونُ حُجَّةً إلَّا بقَيِّمٍ، وإنَّ عَليًّا كان قيِّمَ القُرآنِ، وكانت طاعَتُه مُفتَرَضةً، وكان الحُجَّةَ على النَّاسِ بَعدَ رَسولِ اللهِ) [1830] ((الكافي)) (1/78). ويُنظر: ((رجال الكشي)) (ص: 420)، ((علل الشرائع)) لابن بابويه (ص: 268)، ((وسائل الشيعة)) للحر العاملي (8/141). .
ومَعنى ذلك: أنَّ النَّصَّ القُرآنيَّ لا يكونُ حُجَّةً إلَّا بالرُّجوعِ للإمامِ؛ ولذلك سَمَّوا الإمامَ بالقُرآنِ النَّاطِقِ، والقُرآنَ بالقُرآنِ الصَّامِتِ، ويروونَ عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (أنا كِتابُ اللهِ النَّاطِقُ) [1831] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/61). . فيزعُمونَ أنَّه لم يُفسِّرِ القُرآنَ إلَّا رَجُلٌ واحِدٌ، هو عَليٌّ [1832] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/250). .
ومِمَّا رَوَوه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: (إنَّ اللهَ أنزَل عَليَّ القُرآنَ، وهو الذي من خالفه ضَلَّ، ومَن يبتَغي عِلمَه عِند غَيرِ عَليٍّ هَلَك) [1833] يُنظر: ((وسائل الشيعة)) للحر العاملي (18/138). .
ورَوَوا عن أبي عَبدِ اللهِ جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (إنَّ النَّاسَ يكفيهم القُرآنُ لو وجَدوا له مفسِّرًا، وإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَرَّه لرَجُلٍ واحِدٍ، وفسَّرَ للأئِمَّةِ شَأنَ ذلك الرَّجُلِ، وهو عَليٌّ) [1834] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/25). .
وقد ثَبَتَ عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سُئِل: هَل عِندَكم شَيءٌ مِمَّا ليس في القُرآنِ أو ما ليس عِندَ النَّاسِ؟ فنَفى ذلك نفيًا قاطعًا [1835] أخرجه البخاري (6903) عن أبي جُحَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (سألتُ عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه: هل عندكم شيءٌ ما ليس في القرآنِ؟ وقال مرَّةً: ما ليس عِندَ النَّاسِ. فقال: والذي فلَق الحَبَّ وبرَأَ النَّسَمةَ، ما عندنا إلَّا ما في القرآنِ إلَّا فهمًا يعطى رجلٌ في كتابِه، وما في الصَّحيفةِ. قلتُ: وما في الصَّحيفةِ؟ قال: العَقلُ، وفَكاكُ الأسيرِ، وألَّا يُقتَلَ مُسلِمٌ بكافرٍ). .
وذَكرَ ابنُ تَيميَّةَ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه -وهو حَبرُ القُرآنِ- رَوى عن عَدَدٍ مِنَ الصَّحابةِ، كأبي هُرَيرةَ، وعَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ، وزَيدِ بنِ ثابتٍ، وأُبَيٍ، وأُسامةَ بنِ زَيدٍ، وغَيرِهم مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، ولم يروِ فقَط عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، بل (رِوايتُه عن عَليٍّ قَليلةٌ جِدًّا، وكذلك كتُبُ التَّفاسيرِ) [1836] ((منهاج السنة)) (4/155). .
ويعتَقِدُ كثيرٌ مِنَ الشِّيعةِ أنَّ العِلمَ الشَّرعيَّ لا يجوزُ أخذُه إلَّا مِن أهلِ البَيتِ رِضوانُ اللهِ عليهم، وأنَّ العِلمَ المَأخوذَ مِن غَيرِ طَريقِهم عِلمٌ باطِلٌ، وهذا القَولُ مُخالِفٌ للقُرآنِ والسُّنَّةِ والعَقلِ الصَّحيحِ.
وهذه عَشرُ نِقاطٍ مُختَصَرةٍ لبَيانٍ ذلك:
1- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [آل عمران: 164] ، فمِنَّةُ اللهِ ببَعثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هي لجَميعِ الأُمَّةِ وليست خاصَّةً بأهلِ بَيتِه، والآيةُ واضِحةٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ كان يُعلِّمُ جَميعَ المُؤمِنينَ مِن أصحابِه القُرآنَ والسُّنَّةَ، ولم يكُنْ يُعَلِّمُ أهلَ بَيتِه فقَط.
2- مِن أهلِ بَيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أزواجُه أُمَّهاتُ المُؤمِنينَ، وقد خَصَّهنَّ اللهُ بأمرِهنَّ أن يذكُرنَ ما يُتلى في بُيوتِهنَّ مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ، ويُعلِّمنَه غَيرَهنَّ، فقال اللهُ سُبحانَه لهن: وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 33 - 34] ، ومَعلومٌ أنَّ أهلَ بَيتِ كُلِّ إنسانٍ يدخُلُ فيه زَوجاتُه، فزَوجاتُ النَّبيِّ مِن أهل بَيتِه، ومِن أهلِ بَيتِ النَّبيِّ أيضًا: العَبَّاسُ عَمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وابنُه عَبدُ اللهِ حَبرُ الأمَّةِ، وغَيرُهم مِنَ المُؤمِنينَ مِن بَني هاشِمٍ.
3- يعتَقِدُ الشِّيعةُ أنَّ آلَ البَيتِ في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هم فقَط عَليُّ بنُ أبي طالبٍ وفاطِمةُ والحَسَنُ والحُسَينُ رَضِيَ اللهُ عنهم، ومَعلومٌ أنَّ الحَسنَينِ كانا في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَغيرَينِ جِدًّا لم يأخُذا عنه مِنَ العِلمِ إلَّا قَليلًا جِدًّا، وفاطِمةُ الزَّهراءُ ماتت بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسِتَّةِ أشهرٍ، فلم يُؤخَذْ عنها مِنَ العِلمِ إلَّا القَليلُ، وعَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه هو أكثَرُ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ الأرَبعةِ رِوايةً للحَديثِ، ولكِنَّه كغَيرِه مِنَ الصَّحابةِ لم يحفَظْ جَميعَ أحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويوجَدُ مِنَ الصَّحابةِ مَن هو أكثَرُ منه رِوايةً؛ فعَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه لم يكُنْ مُلازِمًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طيلةَ حَياتِه سَفَرًا وحَضَرًا، فمَثلًا لم يكُنْ مَعَه أثناءَ الهجرةِ، فهَل كُلُّ ما سَمِعَه أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ مِنَ النَّبيِّ أثناءَ الهجرةِ أو سَمِعَه الصَّحابةُ مِنَ النَّبيِّ حينَ وُصولِه المَدينةَ لا نَأخُذُ به؛ لأنَّه لم يسمَعْه عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه؟!
وفي غَزوةِ تَبوكَ استَخلف النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَليَّ بنَ أبي طالبٍ على المَدينةِ، وبَقي النَّبيُّ مُسافِرًا في تلك الغَزوةِ مُدَّةً سَمعِ فيها الصَّحابةُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَدَدًا مِنَ الأحاديثِ النَّبَويَّةِ، فهَل نَترُكُ تلك الأحاديثَ التي سَمِعَها الصَّحابةُ لأنَّه لم يسمَعْها عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه؟! وهَل كان الواجِبُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ألَّا يُكلِّمَ الصَّحابةَ بشَيءٍ مِنَ العِلمِ لعَدَمِ حُضورِ عَليٍّ؟!
وفي آخِرِ حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرسَل عَليَّ بنَ أبي طالبٍ إلى اليمَنِ داعيًا إلى اللهِ وقاضيًا، وبَقي عَليٌّ في اليمَنِ مُدَّةً حتَّى أدرَك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَكَّةَ في حَجَّةِ الوداعِ، وكان النَّبيُّ في تلك المُدَّةِ يُعَلِّمُ أصحابَه الكِتابَ والحِكمةَ ويخطُبُ لهم الجُمُعةَ، وكان يسمَعُ الصَّحابةُ منه عَدَدًا مِنَ الأحاديثِ ويرَونَ هَدْيَه وأفعالَه، فهَل كان كُلُّ ذلك العِلمِ الكثيرِ النَّافِعِ لا يجوزُ لأحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ رِوايتُه لأنَّ عَليًّا كان غائِبًا في اليمَنِ؟!
4- قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ لأصحابِه: ((بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً)) [1837] أخرجه البخاري (3461) مطولًا من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. وأرسَل كثيرًا مِن أصحابه مِمَّن ليسوا مِن أهل بَيتِه دُعاةً وغُزاةً ومُعَلِّمينَ إلى قَبائِلِ العَرَبِ، وأرسَل بَعضَهم إلى المُلوكِ لدَعوتِهم إلى الإسلامِ، ولم يخُصَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ أهلَ بَيتِه بأمرِهم بالتَّبليغِ دونَ أصحابِه، كما لم يخُصَّهم بالتَّعليمِ دونَ غَيرِهم.
5- سُئِل أميرُ المُؤمِنينَ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ وهو خَليفةٌ لا يخشى أحَدًا مِنَ النَّاسِ: هَل خَصَّك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشَيءٍ مِنَ العِلمِ دونَ النَّاسِ؟ فقال عَليُّ بنُ أبي طالبٍ بكُلِّ وُضوحٍ: (لا والذي فلقَ الحَبَّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ) [1838] أخرجه البخاري (3047) عن أبي جُحيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (قلتُ لعليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: هل عندَكم شيءٌ من الوَحيِ إلَّا ما في كتابِ اللهِ؟ قال: والذي فَلَق الحبَّةَ وبرَأ النَّسَمةَ ما أعلَمُه إلَّا فهمًا يعطيه اللهُ رجلًا في القرآنِ، وما في هذه الصَّحيفةِ. قُلتُ: وما في الصَّحيفةِ؟ قال: العَقلُ، وفَكاكُ الأسيرِ، وألَّا يُقتَلَ مُسلِمٌ بكافرٍ). .
فهذا عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه يحلِفُ باللهِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ لم يخُصَّه بشَيءٍ مِنَ العِلمِ دونَ النَّاسِ، فعَجَبًا لمَن يظُنُّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ خَصَّ عَليًّا بالعِلمِ النَّافِعِ كُلِّه! وكأنَّ اللهَ لم يُرسِلِ النَّبيَّ مُحَمَّدًا إلَّا لعَليٍّ، ولم يجعَلْه رَحمةً إلَّا لأهلِ بَيتِه، واللهُ يقولُ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفَرْقان: 1] ، ويقولُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] .
6- عُلماءُ أهلِ البَيتِ كانوا وقتَ طَلبِهم للعِلمِ كغَيرِهم مِن طُلَّابِ العِلمِ يأخُذونَ العِلمَ النَّافِعَ مِن كُلِّ مَن حَمَله مِن أهلِ العِلمِ، سَواءٌ كان العالمُ مِن أهلِ البَيتِ أو من غَيرِهم، وسَواءٌ كان قُرَشيًّا أو غَيرَ قُرَشيٍّ، وسَواءٌ كان عَرَبيًّا أو عَجَميًّا، فمَثَلًا الحَسَنُ والحُسَينُ وعَليُّ بنُ الحُسَينِ زَينُ العابدينَ ومُحَمَّدُ بنُ عَليٍّ الباقِرُ وأخوه زَيدُ بنُ عَليٍّ وجَعفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ وغَيرُهم مِن عُلماءِ أهلِ البَيتِ تَعلَّموا القُرآنَ والسُّنَّةَ والفِقهَ والسِّيرةَ النَّبَويَّةَ مِنَ العُلماءِ الذينَ أدرَكوهم، ولم يُعرِضوا عن سَماعِ العِلمِ مِن أيِّ عالمٍ لكونِه مِن غَيرِ أهلِ البَيتِ، والنَّاظِرُ في كُتُبِ الحَديثِ يجِدُ كثيرًا مِن رِواياتِ أهلِ البَيتِ عن غَيرِ أهلِ البَيتِ، فالحِكمةُ ضالَّةُ المُؤمِنِ أنَّى وجَدَها فهو أحَقُّ بها.
7- القُرآنُ الكريمُ يُقرَأُ بالقِراءاتِ العَشرِ المُتَواتِرةِ، وليسَ أحَدٌ مِنَ القُرَّاءِ العَشرةِ المَشهورينَ مِن أهلِ البَيتِ، فالقُرَّاءُ العَشرةُ المَشهورونَ هم: نافِعُ بنُ أبي نُعَيمٍ، وعَبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ، وعاصِمُ بنُ أبي النَّجودِ، وحَمزةُ الزَّيَّاتُ، وعَليٌّ الكِسائيُّ، وعَبدُ اللهِ بنُ عامِرٍ، ويعقوبُ بنُ إسحاقَ، وأبو جَعفَرٍ يزيدُ بنُ القَعقاعِ، وخَلَفُ بنُ هِشامٍ، فهَل جَميعُ هذه القِراءاتِ العَشرِ باطِلةٌ لأنَّ القُرَّاءَ العَشرةَ ليسوا مِن أهلِ البَيتِ؟!
وهذه السِّيرةُ النَّبَويَّةُ أقدَمُ مَن ألَّف فيها موسى بنُ عُقبةَ ومُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ، ثُمَّ ابنُ هِشامٍ الحِميريُّ، وكُلُّهم ليسوا مِن أهلِ البَيتِ، فهَل السِّيرةُ النَّبَويَّةُ بما تَضَمَّنت مِن مُعجِزاتٍ وغَزَواتٍ وأحداثٍ كُلُّها باطِلةٌ لأنَّ الذينَ جَمَعوها ليسوا مِن أهلِ البَيتِ؟!
والمُؤَرِّخونَ القُدامى والنَّسَّابونَ الذينَ كتَبوا التَّاريخَ وحَفِظوا أنسابَ قَبائِلِ العَرَبِ وكتَبوا تَراجِمَ النُّبَلاءِ وأنسابَهم، وذَكروا سِيرَ الخُلفاءِ والمُلوكِ، وأخبارَ الفُتوحاتِ وتاريخَ الوفياتِ؛ ليسوا مِن أهلِ البَيتِ، فهَل نَترُكُ تَعَلُّمَ عِلمِ التَّاريخِ وعِلمِ الأنسابِ ونَرضى بالجَهلِ بماضينا وأنسابِ قَبائِلِنا ونُنكِرُ أسماءَ الصَّحابةِ وأنسابَهم، وتَرتيبَ المُلوكِ وأخبارَهم؛ لكونِ العُلماءِ الذينَ ألَّفوا كُتُبَ التَّاريخِ وأرَّخوا الوفياتِ وحَفِظوا الأنسابَ ليسوا مِن أهلِ البَيتِ؟!
وعُلماءُ اللُّغةِ والنَّحوِ الذينَ ألَّفوا الكُتُبَ في عِلمِ النَّحوِ وجَمَعوا أشعارَ العَرَبِ وبَيَّنوا مَعانيَها ووضَعوا مَعاجِمَ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ -كالخَليلِ بنِ أحمَدَ، وتِلميذِه سيبَويهِ، والفَرَّاءِ، ومَعمَرِ بنِ المُثَنَّى، وابنِ قُتَيبةَ، والمُبَرِّدِ، وابنِ دُرَيدٍ، والأزَهريِّ الهَرَويِّ- كُلُّهم ليسوا مِن أهلِ البَيتِ، فهَل هذه العُلومُ باطِلةٌ؛ لكونِ المُؤَلِّفينَ فيها ليسوا مِن أهلِ البَيتِ؟!
8- الرُّواةُ الثِّقاتُ الذينَ رَوَوا العِلمَ عن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ أكثَرُهم ليسوا مِن أهلِ البَيتِ، فأشهَرُ تَلاميذِ عَليٍّ الذينَ قَرَؤوا عليه القُرآنَ ورَوَوا عنه الأحاديثَ ونَقَلوا فتاواه وأقوالَه ليسوا مِن ذُرِّيَّتِه، فهَل أصابوا أو أخطؤوا عِندَما نَقَلوا لمَن بَعدَهم ما سَمِعوا مِن عَليٍّ؟ وهَل كان الواجِبُ عليهم أن لا ينقُلوا شَيئًا مِن عِلمِ عَليٍّ لأنَّهم ليسوا مِن أهلِ بَيتِه؟! وهَل كان الواجِبُ على عَليٍّ أن لا يُعَلِّمَ العِلمَ النَّافِعَ إلَّا أهلَ بَيتِه دونَ بَقيَّةِ أصحابِه؟! فإن أصابَ أصحابُ عَليٍّ في نَقلِ عِلمِ عَليٍّ فهَل أصابَ الصَّحابةُ في نَقلِ عِلمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! لا شَكَّ أنَّهم جَميعًا أصابوا، والواجِبُ على كُلِّ مَن سَمِعَ عِلمًا أن يُبَلِّغَ غَيرَه ما سَمِعَ، ولا يحتَكِرَ العِلمَ على سُلالةٍ.
9- أهلُ البَيتِ بارَك اللهُ في ذُرِّيَّتِهم فانتَشَروا في جَميعِ أقطارِ الأرضِ، ومنهم الصَّالحُ والطَّالحُ، ومنهم مَن طَلبَ العِلمَ وعَلَّمَه، ومنهم مَن لم يطلُبِ العِلمَ، والذينَ تَعَلَّموا الفِقهَ منهم ليسوا كُلُّهم على مَذهَبٍ فِقهيٍّ واحِدٍ، بل منهم زَيديَّةٌ هادويَّةٌ، ومنهم أحنافٌ، ومنهم شافِعيَّةٌ، ومنهم مالكيَّةٌ، ومنهم حَنابلةٌ، بل منهم مَن صارَ في العَقيدةِ مُعتَزِليًّا أو غَيرَ ذلك.
10- أنَّ أهلَ الحَديثِ كانوا يروونَ الأحاديثَ النَّبَويَّةَ عن كُلِّ صَحابيٍّ وعن كُلِّ تابعيٍّ وعن كُلِّ أتباعِ التَّابعينَ وتابعيهم، سَواءٌ كانوا مِن أهلِ البَيتِ أو غَيرِهم، وسَواءٌ كانوا عَربًا أو عَجَمًا، وقد رَوى أهلُ الحَديثِ رَحِمَهم اللهُ عن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أكثَرَ مِمَّا يروي الشِّيعةُ عن عَليٍّ في كُتُبِهم، مَعَ كونِ أكثَرِ الرِّواياتِ المَنقولةِ عن عَليٍّ في كُتُبِ الشِّيعةِ بلا إسنادٍ أو بأسانيدَ مُنقَطِعةٍ أو مَوضوعةٍ.
فقد بانَ إذًا مِمَّا سَبَقَ أن دَعوى احتِكارِ أئِمَّةِ أهلِ البَيتِ لتَفسيرِ القُرآنِ وغَيرِه مِن عُلومِ الشَّرعِ دَعوى لا تَستَنِدُ إلى دَليلٍ [1839] يُنظر: ((الشيعة الإمامية الاثني عشرية في ميزان الإسلام)) لربيع السعودي (ص: 194). .

انظر أيضا: