الفرعُ الثَّالثُ: عَقيدةُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ في القُرآنِ
ليس كُلُّ الشِّيعةِ الإماميَّةِ على اتِّفاقٍ في مَسألةِ وُقوعِ نَقصٍ أو زيادةٍ أو تحريفٍ في القُرآنِ.
وهناك تضارُبٌ في الرِّواياتِ المَنسوبةِ لأئِمَّةِ آلِ البَيتِ، وفي أقوالِ عُلماءِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ بَيْنَ نَفيِ وُجودِ تَحريفٍ أو نَقصٍ في القُرآنِ الذي بَيْنَ أيدينا اليومَ، وبَينَ مَن يعتَقِدُ وُجودَ تَحريفٍ أو نَقصٍ فيه. وقد ألَّف بَعضُ الشِّيعةِ في نَفيِ التَّحريفِ، بَينَما ألَّف بَعضُهم رِسالةً في إثباتِه.
فألَّف النُّوريُّ الطَّبَرسيُّ كِتابًا أسماه: (فصلَ الخِطابِ في إثباتِ تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ)، وألَّف عَليٌّ الحُسَينيُّ الميلانيُّ كِتابَ (التَّحقيق في نَفيِ التَّحريفِ عن القُرآنِ الشَّريفِ). فبَعضُ الإماميَّةِ مِنَ المُتَقدِّمينَ والمُتَأخِّرينَ والمُعاصِرينَ ينفونَ وُقوعَ ذلك نَفيًا مُؤَكَّدًا. وبَعضُهم يحمِلُ الرِّواياتِ والأقوالَ التي ظاهِرُها يُؤَيِّدُ وُقوعَ شَيءٍ مِن ذلك على أنَّها شاذَّةٌ أو أخبارُ آحادٍ لا يُعمَلُ بها عِندَهم، أو أنَّ المُرادَ وُقوعُ التَّحريفِ في التَّأويلِ والمَعنى لا في اللَّفظِ، وبَعضُهم يُفسِّرُها بأنَّ المُرادَ الزِّياداتُ اليسيرةُ التي لا تُؤَثِّرُ في القُرآنِ وحِفظِ اللهِ تعالى له، مِثلُ زيادةِ كَلِمةٍ عَليٍّ في بَعضِ المَواضِعِ القُرآنيَّةِ لدى البَعضِ.
وهناك مِنَ الإماميَّةِ المُتَأخِّرينَ مَن تَشَدَّدَ في هذه المُسألةِ وأخَذَ بظاهرِ بَعضِ تلك المرويَّاتِ وقَرَّرَ أنَّها وإن كانت آحادًا لكِنَّ كثرَتَها قد تُفيدُ التَّواتُرَ المَعنَويَّ؛ مِمَّا يقطَعُ بوُجودِ شَيءٍ مِنَ النَّقصِ أو الزِّيادةِ أو التَّحريفِ في القُرآنِ، وحَمل بَعضُ هؤلاء كلامَ أئِمَّتِهم المُتَقدِّمينَ منهم والمُتَأخِّرينَ الذينَ يُصَرِّحونَ بنَفيِ ذلك نَفيًا قاطِعًا على أنَّه صادِرٌ منهم على سَبيلِ التَّقيَّةِ سَدًّا لبابِ الطَّعنِ على تلك الرِّواياتِ!
قال
أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: (اختَلفتِ الرَّوافِضُ في القُرآنِ هَل زيدَ فيه أو نُقِص منه.
وهم ثَلاثُ فِرَقٍ: ... الفِرقةُ الثَّالثةُ منهم، وهم القائِلونَ بالاعتِزالِ والإمامةِ، يزعُمونَ أنَّ القُرآنَ ما نُقِص منه ولا زِيدَ فيه على ما أنزَل اللهُ تعالى على نَبيِّه عليه السَّلامُ، لم يُغَيَّرْ ولم يُبَدَّلْ، ولا زال عَمَّا كان عليهـ)
[1605] ((مقالات الإسلاميين)) (1/55). .
وقال رَحمةُ اللهِ الهنديُّ: (القُرآنُ المَجيدُ عِندَ جُمهورِ عُلماءِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ الاثنَي عَشريَّةِ مَحفوظٌ عن التَّغَيُّرِ والتَّبديلِ، ومَن قال منهم بوُقوعِ النُّقصانِ فيه فقَولُه مَردودٌ غَيرُ مَقبولٍ عِندَهم... المَذهَبُ المُحَقَّقُ عِندَ عُلماءِ الفِرقةِ الإماميَّةِ الاثنَي عَشريَّةِ أنَّ القُرآنَ الذي أنزَله اللهُ على نَبيِّه هو ما بَيْنَ الدَّفَّتَينِ، وهو ما في أيدي النَّاسِ، ليس بأكثَرَ مِن ذلك، وأنَّه كان مجموعًا مؤلَّفًا في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَفِظَه ونَقَله أُلوفٌ مِنَ الصَّحابةِ وجَماعةٌ مِنَ الصَّحابةِ ك
عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعبٍ وغَيرِهما، خَتَموا القُرآنَ على النَّبيِّ عِدَّةَ خَتَماتٍ، ويظهَرُ القُرآنُ ويُشهَرُ بهذا التَّرتيبِ عِندَ ظُهورِ الإمامِ الثَّاني عَشَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، والشِّرذِمةُ القَليلةُ التي قالت بوُقوعِ التَّغَيُّرِ فقَولُهم مَردودٌ، ولا اعتِدادَ بهم فيما بَينَهم، وبَعضُ الأخبارِ الضَّعيفةِ التي رُوِيَت في مَذهَبِهم لا يُرجَعُ بمِثلِها عن المَعلومِ المَقطوعِ على صِحَّتِه، وهو حَقٌّ؛ لأنَّ خَبَرَ الواحِدِ إذا اقتَضى عِلمًا ولم يوجَدْ في الأدِلَّةِ القاطِعةِ ما يدُلُّ عليه، وجَبَ رَدُّه، على ما صَرَّحَ ابنُ المُطَهَّرِ الحليُّ في كِتابِه المُسَمَّى بـ "مَبادِئ الوُصولِ إلى عِلمِ الأُصولِ")
[1606] ((إظهار الحق)) (3/ 928). .
أوَّلًا: أقوالُ عُلماءِ الإماميَّةِ الذينَ أنكروا وُقوعَ نَقصٍ أو تَحريفٍ في لفظِ القُرآنِ:
1- قال الصَّدوقُ (ت 381هـ) في بابِ الاعتِقادِ في مَبلَغِ القُرآنِ: (اعتِقادُنا أنَّ القُرآنَ الذي أنزَله اللهُ تعالى على نَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ، هو ما بَيْنَ الدَّفَّتَينِ، وهو ما في أيدي النَّاسِ، ليس بأكثَرَ مِن ذلك، ومَبلَغُ سُوَرِه عِندَ النَّاسِ مِائةٌ وأربَعَ عَشرةَ سورةً. وعِندَنا أنَّ الضُّحى وألم نَشرَحْ سورةٌ واحِدةٌ، ولإيلافِ وألمْ تَرَ كَيْفَ سورةٌ واحِدةٌ. [وفي نُسخةٍ أُخرى زيادةُ: "والأنفالُ والتَّوبةُ سورةٌ واحِدةٌ"]، ومَن نَسَبَ إلينا أنَّا نَقولُ: إنَّه أكثَرُ مِن ذلك فهو كاذِبٌ).
((الاعتقادات)) (1/84).
2- قال المُفيدُ (ت 413هـ): (القَولُ في تَأليفِ القُرآنِ وما ذَكرَ قَومٌ مِنَ الزِّيادةِ فيه والنُّقصانِ:
أقولُ: إنَّ الأخبارَ قد جاءت مُستَفيضةً عن أئِمَّةِ الهدى مِن آلِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ، باختِلافِ القُرآنِ وما أحدَثَه فيه بَعضُ الظَّالمينَ فيه مِنَ الحَذفِ والنُّقصانِ، فأمَّا القَولُ في التَّأليفِ فالمَوجودُ يقضي فيه بتَقديمِ المُتَأخِّرِ وتَأخيرِ المُتَقدِّمِ، ومَن عَرَف النَّاسِخَ والمَنسوخَ والمَكِّيَّ والمَدَنيَّ لم يُرَتِّبْ بما ذَكَرْناه.
وأمَّا النُّقصانُ فإنَّ العُقولَ لا تُحيلُه ولا تَمنَعُ مِن وُقوعِه، وقد امتَحَنتُ مَقالةَ مَن ادَّعاه، وكلَّمتُ عليه المُعتَزِلةَ وغَيرَهم طَويلًا فلم أظفَرْ منهم بحُجَّةٍ اعتَمَدَها في فسادِه. وقد قال جَماعةٌ مِن أهلِ الإمامةِ: إنَّه لم ينقُصْ مِن كَلِمةٍ ولا مِن آيةٍ ولا مِن سورةٍ، ولكِن حُذِف ما كان مُثبتًا في مُصحَفِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السَّلامُ مِن تَأويلِه وتَفسيرِ مَعانيه على حَقيقةِ تَنزيلِه، وذلك كان ثابتًا مُنزَّلًا وإن لم يكُنْ مِن جُملةِ كلامِ اللهِ تعالى الذي هو القُرآنُ المُعجِزُ، وقد يُسَمَّى تَأويلُ القُرآنِ قُرآنًا؛ قال اللهُ تعالى:
وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114] ، فسَمَّى تَأويلَ القُرآنِ قُرآنًا، وهذا ما ليس فيه بَيْنَ أهلِ التَّفسيرِ اختِلافٌ.
وعِندي أنَّ هذا القَولَ أشبَهُ مِن مَقالِ مَن ادَّعى نُقصانَ كَلِمٍ مِن نَفسِ القُرآنِ على الحَقيقةِ دونَ التَّأويلِ، وإليه أميلُ، واللهَ أسألُ تَوفيقَه للصَّوابِ.
وأمَّا الزِّيادةُ فيه فمَقطوعٌ على فسادِها مِن وجهٍ، ويجوزُ صِحَّتُها مِن وجهٍ؛ فالوجهُ الذي أقطَعُ على فسادِه أن يُمكِنَ لأحَدٍ مِنَ الخَلقِ زيادةُ مِقدارِ سورةٍ فيه على حَدٍّ يلتَبسُ به عِندَ أحَدٍ مِنَ الفُصَحاءِ، وأمَّا الوَجهُ المُجَوَّزُ فهو أن يُزادَ فيه الكَلِمةُ والكلمَتانِ والحَرفُ والحَرفانِ وما أشبَهَ ذلك مِمَّا لا يَبلُغُ حَدَّ الإعجازِ، ويكونُ مُلتَبِسًا عِندَ أكثَرِ الفُصَحاءِ بكَلِمِ القُرآنِ، غَيرَ أنَّه لا بُدَّ متى وقَعَ ذلك مِن أن يدُلَّ اللهُ عليه، ويوضِّحَ لعِبادِه عن الحَقِّ فيه، ولستُ أقطَعُ على كونِ ذلك، بل أميلُ إلى عَدَمِه وسَلامةِ القُرآنِ عنه، ومَعي بذلك حَديثٌ عن
الصَّادِقِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ عليه السَّلامُ، وهذا المَذهَبُ بخِلافِ ما سَمِعناه عن بَني نوبختَ رَحِمَهم اللهُ مِنَ الزِّيادةِ في القُرآنِ والنُّقصانِ فيه، وقد ذَهَبَ إليه جَماعةٌ مِن مُتَكلِّمي الإماميَّةِ وأهلِ الفِقهِ منهم والاعتِبارِ)
[1608] ((أوائل المقالات)) (ص: 80). .
وأمَّا قَولُ المُفيدِ: (اتَّفقَتِ الإماميَّةُ على وُجوبِ رَجعةِ كثيرٍ مِنَ الأمواتِ إلى الدُّنيا قَبلَ يومِ القيامةِ، وإن كان بَينَهم في مَعنى الرَّجعةِ اختِلافٌ... واتَّفقوا أنَّ أئِمَّةَ الضَّلالِ خالفوا في كثيرٍ مِن تَأليفِ القُرآنِ، وعَدَلوا فيه عن موجِبِ التَّنزيلِ وسُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ، وأجمَعَتِ المُعتَزِلةُ والخَوارِجُ والزَّيديَّةُ والمُرجِئةُ، وأصحابُ الحَديثِ، على خِلافِ الإماميَّةِ في جَميعِ ما عَدَدْناهـ)
[1609] ((أوائل المقالات)) (ص: 48). .
فليسَ في هذا النَّقلِ ما يُفيدُ إجماعَ الإماميَّةِ على القَولِ بوُقوعِ الزِّيادةِ والنُّقصانِ في القُرآنِ، وإنَّما فيه إجماعُهم على أنَّ تَرتيبَ القُرآنِ الحاليَّ بَيْنَ كثيرٍ مِن سُوَرِه غَيرُ صَحيحٍ، باعتِبارِه اجتِهادًا مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وسَيُعيدُه المَهديُّ بالتَّرتيبِ الصَّحيحِ بحَسبِ تَصريحِ بَعضِهم بذلك.وسُئِل المُفيدُ: ما قَولُك في القُرآنِ؟ أهو ما بَيْنَ الدَّفَّتَينِ الذي في أيدي النَّاسِ أم هَل ضاعَ مِمَّا أنزَل اللهُ على نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منه شَيءٌ، أم لا؟ وهَل جَمَعَه عليٌّ أم جَمَعَه عُثمانُ؟ فأجابَ بقَولِه: (إنَّ الذي بَيْنَ الدَّفَّتَينِ مِنَ القُرآنِ جَميعُه كلامُ اللهِ تعالى وتَنزيلُه، وليسَ فيه شَيءٌ مِن كلامِ البَشَرِ، وهو جُمهورُ المُنزَّلِ، والباقي مِمَّا أنزَله اللهُ تعالى قُرآنًا عِندَ المُستَحفَظِ للشَّريعةِ المُستَودَعِ للأحكامِ، ولم يضِعْ منه شَيءٌ، وإن كان الذي جَمَعَ ما بَيْنَ الدَّفَّتَينِ الآنَ لم يجعَلْه في جُملةِ ما جَمَعَ لأسبابٍ دَعَتْه إلى ذلك؛ منها: قُصورُه عن مَعرِفةِ بَعضِه. ومنها: ما شَكَّ فيه، ومنها: ما عَمَدَ بنَفسِه، ومنها: ما تَعَمَّدَ إخراجَه. وقد جَمَعَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السَّلامُ القُرآنَ المُنَزَّلَ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه، وألَّفه بحَسبِ ما وجَبَ مِن تَأليفِه، فقدَّم المَكِّيَّ على المَدَنيِّ، والمَنسوخَ على النَّاسِخِ، ووضع كُلَّ شَيءٍ منه في حَقِّه؛ ولذلك قال
جَعفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: أمَا واللهِ لو قُرِئَ القُرآنُ كما أُنزِلَ لألفيتُمونا فيه مُسَمَّينَ كما سُمِّيَ مَن كان قَبلَنا،... غَيرَ أنَّ الخَبَرَ قد صَحَّ عن أئِمَّتِنا عليهم السَّلامُ أنَّهم قد أمَروا بقِراءةِ ما بَيْنَ الدَّفَّتَينِ، وألَّا نَتَعَدَّاه بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ منه إلى أن يقومَ القائِمُ عليه السَّلامُ، فيُقرِئُ النَّاسَ القُرآنَ على ما أنزَل اللهُ تعالى، وجَمَعَه أميرُ المُؤمِنينَ عليه السَّلامُ.
ونَهَونا عن قِراءةِ ما ورَدت به الأخبارُ مِن أحرُفٍ تَزيدُ على الثَّابتِ في المُصحَفِ؛ لأنَّها لم تَأتِ على التَّواتُرِ، وإنَّما جاءت بالآحادِ، وقد يَغلَطُ الواحِدُ فيما ينقُلُه، ولأنَّه متى قَرَأ الإنسانُ بما يُخالفُ ما بَيْنَ الدَّفَّتَينِ غَرَّرَ بنَفسِه مِن أهلِ الخِلافِ، وأغرى به الجَبَّارينَ، وعَرَّضَ نَفسَه للهَلاكِ؛ فمَنَعونا عليهم السَّلامُ مِن قِراءةِ القُرآنِ بخِلافِ ما يثبُتُ بَيْنَ الدَّفَّتَينِ)
[1610] ((المسائل السرورية)) (ص: 78-81). ويُنظر: ((آراء حول القرآن)) لعلي الفاني الأصفهاني (ص: 133). .
والمُفيدُ في الفِقرةِ الأخيرةِ يقصِدُ بَعضَ القِراءاتِ غَيرِ المُتَواتِرةِ أن لا يُقرَأَ بها، على اعتِبارِ أنَّها أخبارُ آحادٍ لا يُعتَدُّ بها عِندَهم.3. قال
الطُّوسيُّ (ت 460هـ): (الزِّيادةُ فيه مَجمَعٌ على بُطلانِها والنُّقصانُ منه، فالظَّاهِرُ أيضًا مِن مَذهَبِ المُسلمينَ خِلافُه، وهو الأليقُ بالصَّحيحِ مِن مَذهَبِنا، وهو الذي نَصَرَه المُرتَضى (رهـ) ت 436هـ، وهو الظَّاهرُ في الرِّواياتِ، غَيرَ أنَّه رُوِيَت رِواياتٌ كثيرةٌ مِن جِهةِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، بنُقصانِ كثيرٍ مِن آيِ القُرآنِ، ونَقْلِ شيءٍ منه مِن مَوضِعٍ إلى مَوضِعٍ، طَريقُها الآحادُ التي لا توجِبُ عِلمًا ولا عَمَلًا، والأَولى الإعراضُ عنها، وتَركُ التَّشاغُلِ بها؛ لأنَّه يُمكِنُ تَأويلُها، ولو صَحَّت لما كان ذلك طَعنًا على ما هو مَوجودٌ بَيْنَ الدَّفَّتَينِ، فإنَّ ذلك مَعلومٌ صِحَّتُه، لا يعتَرِضُه أحَدٌ مِنَ الأُمَّةِ ولا يدفعُه، ورِواياتُنا مُتَناصِرةٌ بالحَثِّ على قِراءَتِه والتَّمَسُّكِ بما فيه، ورَدِّ ما يرِدُ مِنِ اختِلافِ الأخبارِ في الفُروعِ إليه. وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله رِوايةٌ لا يدفعُها أحَدٌ، أنَّه قال: "إنِّي مُخلفٌ فيكم الثَّقَلينِ، ما إن تَمَسَّكتُم بهما لن تَضِلُّوا: كِتابَ اللهِ، وعِترَتي أهلَ بَيتي، وأنَّهما لن يفتَرِقا حتَّى يَرِدَا علَيَّ الحَوضَ"، وهذا يدُلُّ على أنَّه مَوجودٌ في كُلِّ عَصرٍ؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يأمُرَ بالتَّمَسُّكِ بما لا نَقدِرُ على التَّمَسُّكِ به، كما أنَّ أهلَ البَيتِ ومَن يُجِبُ اتِّباعُ قَولِه حاصِلٌ في كُلِّ وقتٍ. وإذا كان المَوجودُ بَينَنا مَجمَعًا على صِحَّتِه، فينبَغي أن نتَشاغَلَ بتَفسيرِه، وبَيانِ مَعانيهـ)
[1611] ((التبيان في تفسير القرآن)) (1/3). .
4. قال الطَّبرسيُّ (ت 548هـ): (الكلامُ في زيادةِ القُرآنِ ونُقصانِه... فأمَّا الزِّيادةُ فيه: فمُجمَعٌ على بُطلانِه. وأمَّا النُّقصانُ منه: فقد رَوى جَماعةٌ مِن أصحابِنا، وقَومٌ مِن حَشَويَّةِ العامَّةِ، أنَّ في القُرآنِ تَغييرًا أو نُقصانًا. والصَّحيحُ مِن مَذهَبِ أصحابِنا خِلافُه، وهو الذي نَصَرَه المُرتَضى ت 436هـ قدَّسَ اللهُ رُوحَه، واستَوفى الكلامَ فيه غايةَ الاستيفاءِ في جَوابِ المَسائِلِ الطَّرابُلُسيَّاتِ، وذَكرَ في مَواضِعَ أنَّ العِلمَ بصِحَّةِ نَقلِ القُرآنِ، كالعِلمِ بالبُلدانِ، والحَوادِثِ الكِبارِ، والوقائِعِ العِظامِ، والكُتُبِ المَشهورةِ، وأشعارِ العَرَبِ المَسطورةِ؛ فإنَّ العِنايةَ اشتَدَّت، والدَّواعيَ تَوفَّرت على نَقلِه وحِراسَتِه... وعُلماءُ المُسلمينَ قد بَلغوا في حِفظِه وحِمايتِه الغايةَ، حتَّى عَرَفوا كُلَّ شيءٍ اختُلِف فيه مِن إعرابِه وقِراءَتِه وحُروفِه وآياتِه، فكيف يجوزُ أن يكونَ مُغَيَّرًا أو مَنقوصًا، مَعَ العِنايةِ الصَّادِقةِ، والضَّبطِ الشَّديدِ؟... وذَكرَ أيضًا (أنَّ القُرآنَ كان على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ مَجموعًا مُؤَلَّفًا على ما هو عليه الآنَ، واستَدَلَّ على ذلك بأنَّ القُرآنَ كان يُدرَسُ ويُحفَظُ جَميعُه في ذلك الزَّمانِ حتَّى عُيِّنَ على جَماعةٍ مِنَ الصَّحابةِ في حِفظِهم له، وإن كان يُعرَضُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ ، ويُتلى عليه، وإنَّ جَماعةً مِنَ الصَّحابةِ مِثلُ
عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعبٍ، وغَيرِهما، خَتَموا القُرآنَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ عِدَّة خَتَماتٍ، وكُلُّ ذلك يدُلُّ بأدنى تَأمُّلٍ على أنَّه كان مَجموعًا مُرَتَّبًا غَيرَ مَبتورٍ ولا مَبثوثٍ. وذَكرَ أنَّ مَن خالف في ذلك مِنَ الإماميَّةِ والحَشَويَّةِ لا يُعتَدُّ بخِلافِهم؛ فإنَّ الخِلافَ في ذلك مُضافٌ إلى قَومٍ مِن أصحابِ الحَديثِ نَقَلوا أخبارًا ضَعيفةً ظَنُّوا صِحَّتَها، لا يُرجَعُ بمِثلِها عن المَعلومِ المَقطوعِ على صِحَّتِه
[1612] ((مجمع البيان)) (1/42). .
5. قال الفيضُ الكاشانيُّ (ت 1091هـ): (يخطُرُ بالبالِ في دَفعِ هذا الإشكالِ -والعِلمُ عِندَ اللهِ- أن يُقالَ: إن صَحَّت هذه الأخبارُ فلعَلَّ التَّغييرَ إنَّما وقَعَ فيما لا يُخِلُّ بالمَقصودِ كثيرَ إخلالٍ، كحَذفِ اسمِ عَليٍّ وآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهم، وحَذفِ أسماءِ المُنافِقينَ عليهم لعائِنُ اللهِ؛ فإنَّ الانتِفاعَ بعُمومِ اللَّفظِ باقٍ، وكحَذفِ بَعضِ الآياتِ وكِتمانِه، فإنَّ الانتِفاعَ بالباقي باقٍ، مَعَ أنَّ الأوصياءَ كانوا يتَدارَكونَ ما فاتَنا منه مِن هذا القَبيلِ، ويدُلُّ على هذا قَولُه عليه السَّلامُ في حَديثِ
طَلحةَ: إن أخَذتُم بما فيه نَجَوتُم مِنَ النَّارِ ودَخَلتُم الجَنَّةَ، فإنَّ فيه حُجَّتَنا وبَيانَ حَقِّنا وفَرْضَ طاعَتِنا.
ولا يبعُدُ أيضًا أن يُقالَ: إنَّ بَعضَ المَحذوفاتِ كان مِن قَبيلِ التَّفسيرِ والبَيانِ، ولم يكُنْ مِن أجزاءِ القُرآنِ، فيكونُ التَّبديلُ مِن حَيثُ المَعنى، أي: حَرَّفوه وغَيَّروه في تَفسيرِه وتَأويلِه، أعني حَمَلوه على خِلافِ ما هو به، فمَعنى قَولِهم عليهم السَّلامُ: كذا نَزَلت، أنَّ المُرادَ به ذلك، لا أنَّها نَزَلت مَعَ هذه الزِّيادةِ في لفظِها، فحُذِف منها ذلك اللَّفظُ.
ومِمَّا يدُلُّ على هذا ما رَواه في الكافي بإسنادِه عن أبي جَعفرٍ عليه السَّلامُ: أنَّه كتَبَ في رِسالتِه إلى سَعدِ الخَيرِ: "وكان مِن نَبذِهم الكِتابَ أن أقاموا حُروفَه وحَرَّفوا حُدودَه، فهم يروونَه ولا يرعَونَه، والجُهَّالُ يُعجِبُهم حِفظُهم للرِّوايةِ، والعُلماءُ يَحزُنُهم تَركُهم للرِّعايةِ". الحَديثَ.
وما رَوته العامَّةُ أنَّ عَليًّا عليه السَّلامُ كتَبَ في مُصحَفِه النَّاسِخَ والمَنسوخَ، ومَعلومٌ أنَّ الحُكمَ بالنَّسخِ لا يكونُ إلَّا مِن قَبيلِ التَّفسيرِ والبَيانِ، ولا يكونُ جُزءًا مِنَ القُرآنِ، فيُحتَمَلُ أن يكونَ بَعضُ المَحذوفاتِ أيضًا كذلك، هذا ما عِندي مِنَ التَّفصِّي عن الإشكالِ، واللهُ يعلمُ حَقيقةَ الحالِ. وأمَّا اعتِقادُ مَشايِخِنا (رهـ) في ذلك فالظَّاهِرُ مِن ثِقةِ الإسلامِ مُحَمَّدِ بنِ يعقوبَ الكُلينيِّ طابَ ثَراه، أنَّه كان يعتَقِدُ التَّحريفَ والنُّقصانَ في القُرآنِ؛ لأنَّه رَوى رِواياتٍ في هذا المَعنى في كِتابِه الكافي، ولم يتَعَرَّضْ لقدحٍ فيها، مَعَ أنَّه ذَكرَ في أوَّلِ الكِتابِ أنَّه كان يثِقُ بما رَواه فيه، وكذلك أُستاذُه عَليُ بنُ إبراهيمَ القُمِّيُّ (رهـ) فإنَّ تَفسيرَه مَملوءٌ منه وله غُلوٌّ فيه، وكذلك الشَّيخُ أحمَدُ بنُ أبي طالبٍ الطَّبَرسيُّ رَضِيَ اللهُ عنه؛ فإنَّه أيضًا نَسَجَ على مِنوالِهما في كِتابِ الاحتِجاجِ، وأمَّا الشَّيخُ أبو عَليٍّ الطَّبَرسيُّ فإنَّه قال في مَجمَعِ البَيانِ: أمَّا الزِّيادةُ فيه فمُجمَعٌ على بُطلانِه، وأمَّا النُّقصانُ فيه فقد رَوى جَماعةٌ مِن أصحابِنا وقَومٌ مِن حَشَويَّةِ العامَّةِ أنَّ في القُرآنِ تَغييرًا ونُقصانًا، والصَّحيحُ مِن مَذهَبِ أصحابِنا خِلافُهـ)
[1613] ((التفسير الصافي)) (1/51). .
6. قال نورُ اللهِ التُّستَريُّ (ت 1019هـ): (ما نُسِبَ إلى الشِّيعةِ الإماميَّةِ مِن قَولِهم بوُقوعِ التَّغييرِ في القُرآنِ ليس مِمَّا قال به جُمهورُ الإماميَّةِ، وإنَّما قال به شِرذِمةٌ قَليلةٌ منهم، لا اعتِدادَ بهم فيما بَينَهم)
[1614] ((مصائب النواصب)) (2/115). .
7- رَدَّ مُحَمَّد جَواد البَلاغيُّ (ت 1352هـ) على صاحِبِ كِتابِ (فصل الخِطابِ في إثباتِ تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ) فقال: (إنَّ المُحَدِّثَ المُعاصِرَ جَهَد في كِتابِ «فصل الخِطاب» في جَمعِ الرِّواياتِ التي استَدَلَّ بها على النَّقيصةِ، وكثَّرَ أعدادَ مسانيدِها بأعدادِ المَراسيلِ عن الأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ في الكُتُبِ، كمَراسيلِ العَيَّاشيِّ وفُراتٍ وغَيرِها، مَعَ أنَّ المُتَتَبِّعَ المُحَقِّقَ يجزِمُ بأنَّ هذه المَراسيلَ مَأخوذةٌ مِن تلك المَسانيدِ. وفي جُملةِ ما أورَدَه مِنَ الرِّواياتِ ما لا يتَيسَّرُ احتِمالُ صِدقِها. ومنها ما هو مُختَلِفٌ باختِلافٍ يؤولُ به إلى التَّنافي والتَّعارُضِ، وهذا المُختَصَرُ لا يسعَ بَيانَ النَّحوينِ الأخيرَينِ. هذا مَعَ أنَّ القِسمَ الوافِرَ مِنَ الرِّواياتِ تَرجِعُ أسانيدُه إلى بضعةِ أنفارٍ، وقد وصَف عُلماءُ الرِّجالِ كُلًّا منهم، إمَّا بأنَّه ضَعيفُ الحَديثِ فاسِدُ المَذهَبِ مَجفوُّ الرِّوايةِ، وإمَّا بأنَّه مُضطَرِبُ الحَديثِ والمَذهَبِ يُعرَفُ حَديثُه ويُنكَرُ ويروي عن الضُّعَفاءِ، وإمَّا بأنَّه كذَّابٌ مُتَّهَمٌ لا أستَحِلُّ أن أرويَ مِن تَفسيرِه حَديثًا واحِدًا، وأنَّه مَعروفٌ بالوقفِ وأشَدُّ النَّاسِ عَداوةً للرِّضا عليه السَّلامُ، وإمَّا بأنَّه كان غاليًا كذَّابًا، وإمَّا بأنَّه ضَعيفٌ لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُعَوَّلُ عليه ومِنَ الكذَّابينَ، وإمَّا بأنَّه فاسِدُ الرِّوايةِ يُرمى بالغُلوِّ. ومِنَ الواضِحِ أنَّ أمثالَ هؤلاء لا تُجدي كثرَتُهم شَيئًا. ولو تَسامَحْنا بالاعتِناءِ برِواياتِهم في مِثلِ هذا المَقامِ الكبيرِ لوجَبَ مِن دَلالةِ الرِّواياتِ المُتَعَدِّدةِ أن نُنزِلَها على أنَّ مَضامينَها تَفسيرٌ للآياتِ أو تَأويلٌ أو بَيانٌ لِما يُعلَمُ يقينًا شُمولُ عُموماتِها له؛ لأنَّه أظهَرُ الأفرادِ وأحَقُّها بحُكمِ العامِّ.
أو ما كان مُرادًا بخُصوصِه وبالنَّصِّ عليه في ضِمنِ العُمومِ عِندَ التَّنزيلِ. أو ما كان هو المَورِدُ للنُّزولِ، أو ما كان هو المُرادَ مِنَ اللَّفظِ المُبهَمِ. وعلى أحدِ الوُجوهِ الثَّلاثةِ الأخيرةِ يُحمَلُ ما ورَدَ فيها أنَّه تَنزيلٌ وأنَّه نَزَل به جِبريلُ، كما يشهَدُ به نَفسُ الجَمعِ بَيْنَ الرِّواياتِ. كما يُحمَلُ التَّحريفُ فيها على تَحريفِ المَعنى، ويشهَدُ لذلك مُكاتَبةُ أبي جَعفرٍ عليه السَّلامُ لسَعدِ الخَيرِ كما في رَوضةِ الكافي، ففيها: (وكان مِن نَبذِهم الكِتابَ أن أقاموا حُروفَه وحَرَّفوا حُدودَهـ).
وكما يُحمَلُ ما فيها مِن أنَّه كان في مُصحَفِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السَّلامُ أو ابنِ مَسعودٍ، ويُنَزَّلُ على أنَّه كان فيه بعُنوانِ التَّفسيرِ والتَّأويلِ. ومِمَّا يشهَدُ لذلك:
قَولُ أميرِ المُؤمِنينَ (ع) للزِّنديقِ كما في نَهجِ البَلاغةِ وغَيرِه: ولقد جِئتُهم بالكِتابِ كَملًا مُشتَمِلًا على التَّنزيلِ والتَّأويلِ
[1615] ((آلاء الرحمن)) (1/26). .
8. قال مُحسِن الأمين (ت 1371هـ): (لا يقولُ أحَدٌ مِنَ الإماميَّةِ لا قديمًا ولا حديثًا: إنَّ القُرآنَ مَزيدٌ فيه قَليلٌ أو كثيرٌ، فضلًا عن كُلِّهم، بل كُلُّهم مُتَّفِقونَ على عَدَمِ الزِّيادةِ، ومَن يُعتَدُّ بقَولِه مِن محقِّقيهم مُتَّفِقونَ على أنَّه لم يُنقَصْ منه... ومَن نسَبَ إليهم خِلافَ ذلك فهو كاذِبٌ مُفتَرٍ مُجتَرِئٌ على اللهِ ورَسولِهـ)
[1616] ((أعيان الشيعة)) (1/41). .
9. قال مُحَمَّد حُسَين كاشِف الغِطاء (ت 1373هـ): (يعتَقِدُ الشِّيعةُ الإماميَّةُ:... أنَّ الكِتابَ المَوجودَ في أيدي المُسلمينَ هو الكِتابُ الذي أنزَله اللهُ إليه للإعجازِ والتَّحَدِّي، ولتَعليمِ الأحكام، وتَمييزِ الحَلالِ مِنَ الحَرامِ، وأنَّه لا نَقصَ فيه ولا تَحريفَ ولا زيادةَ، وعلى هذا إجماعُهم، ومَن ذَهَبَ منهم أو مِن غَيرِهم مِن فرَقِ المُسلمينَ إلى وُجودِ نَقصٍ فيه أو تَحريفٍ فهو مخطئٌ يَرُدُّه نَصُّ الكِتابِ العَظيمِ:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] . والأخبارُ الوارِدةُ مِن طُرُقِنا أو طُرُقِهم الظَّاهرةُ في نَقصِه أو تَحريفِه ضَعيفةٌ شاذَّةٌ، وأخبارُ آحادٍ لا تُفيدُ عِلمًا ولا عَمَلًا، فإمَّا أن تُؤوَّلَ بنَحوٍ من الاعتِبارِ، أو يُضرَبَ بها الجِدارُ. ويعتَقِدُ الإماميَّةُ أنَّ كُلَّ مَن اعتَقدَ أو ادَّعى نُبوَّةً بَعدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه، أو نُزولَ وحَيٍ أو كِتابٍ، فهو كافِرٌ يجِبُ قَتلُهـ)
[1617] ((أصل الشيعة وأصولها)) (1/220). .
10. قال شَرَف الدِّينِ العامِليُّ (ت 1381هـ): (كُلُّ من نَسَب إليهم تَحريفَ القُرآنِ فإنَّه مُفتَرٍ عليهم ظالمٌ لهم؛ لأنَّ قداسةَ القُرآنِ الكريمِ مِن ضَروريَّاتِ دينِهم الإسلاميِّ ومَذهَبِهم الإماميِّ، ومَن شَكَّ فيها مِنَ المُسلمينَ فهو مُرتَدٌّ بإجماعِ الإماميَّةِ. فإذا ثَبَتَ عليه ذلك قُتِل ثُمَّ لا يُغسَّلُ ولا يُكفَّنُ ولا يُصَلَّى عليه ولا يُدفنُ في مَقابرِ المُسلمينَ.
وظَواهرُ القُرآنِ فضلًا عن نُصوصِه مِن أبلغِ حُجَجِ اللهِ تعالى، وأقوى أدِلَّةِ أهلِ الحَقِّ بحُكمِ البَداهةِ الأوَّليَّةِ مِن مَذهَبِ الإماميَّةِ؛ ولذلك تَراهم يضرِبونَ بظَواهرِ الأحاديثِ المُخالفةِ للقُرآنِ عُرضَ الجِدارِ، ولا يأبهون بها وإن كانت صَحيحةً، وتلك كتُبُهم في الحَديثِ والفِقهِ والأُصولِ صَريحةٌ بما نَقولُ، والقُرآنُ الحَكيمُ الذي لا يأتيه الباطِلُ مِن بَيْنَ يدَيه ولا مِن خَلفِه إنَّما هو ما بَيْنَ الدَّفَّتَينِ، وهو ما في أيدي النَّاسِ، يزيدُ حرفًا ولا ينقُصُ حرفًا، ولا تَبديلَ فيه لكَلِمةٍ بكَلِمةٍ، ولا لحَرفٍ بحَرفٍ، وكُلُّ حَرفٍ مِن حُروفِه مُتَواتِرٌ في كُلِّ جيلٍ تواتُرًا قَطعيًّا إلى عَهدِ الوَحيِ والنُّبوَّةِ، وكان مجموعًا على ذلك العَهدِ الأقدَسِ مؤلَّفًا على ما هو عليه الآنَ، وكان جبرئيلُ عليه السَّلامُ يُعارِضُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه بالقُرآنِ في كُلِّ عامٍ مَرَّةً، وقد عارَضَه به عامَ وفاتِه مَرَّتَينِ.
والصَّحابةُ كانوا يَعرِضونَه ويتلونَه على النَّبيِّ حتَّى خَتَموه عليه صلَّى اللهُ عليه وآلِه مرارًا عَديدةً، وهذا كُلُّه مِنَ الأُمورِ المَعلومةِ الضَّروريَّةِ لدى المُحَقِّقينَ مِن عُلماءِ الإماميَّةِ)
[1618])) الفصول المهمة)) (ص: 175). .
11. قال الخُمينيُّ (ت 1409هـ): (إنَّ الواقِفَ على عِنايةِ المُسلمينَ بجَمعِ الكِتابِ وحِفظِه وضَبطِه قِراءةً وكِتابةً، يقِفُ على بُطلانِ المزعمةِ، وأنَّه لا ينبَغي أن يركنَ إليه ذو مُسكةٍ. وما ورَدت فيه مِنَ الأخبارِ بَيْنَ ضَعيفٍ لا يُستَدَلُّ به، إلى مَجعولٍ يلوحُ منها أماراتُ الجَعلِ، إلى غَريبٍ يُقضى منه العَجَبُ، إلى صَحيحٍ يدُلُّ على أنَّه مَضمونُ تَأويلِ الكِتابِ وتَفسيرِه، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الأقسامِ التي يحتاجُ بَيانُ المُرادِ منها إلى تَأليفِ كِتابٍ حافِلٍ.
ولولا خَوفُ الخُروجِ عن طَورِ الكِتابِ لأرخَينا عِنانَ البَيانِ إلى بَيانِ تاريخِ القُرآنِ وما جَرى عليه طيلةَ قُرونٍ، وأوضَحنا عليك أنَّ الكِتابَ هو عَينُ ما بَيْنَ الدَّفَّتَينِ، والاختِلافاتُ النَّاشِئةُ بَيْنَ القُرَّاءِ ليس إلَّا أمرًا حديثًا لا رَبطَ له بما نَزَل به الرُّوحُ الأمينُ على قَلبِ سَيِّدِ المُرسَلينَ)
[1619] ((تهذيب الأصول)) (2/165). .
12. قال أبو القاسِمِ الخوئيُّ (ت 1413هـ): (جُملةُ القَولِ: أنَّ المَشهورَ بَيْنَ عُلماءِ الشِّيعةِ ومحقِّقيهم، بل المُتَسالمُ عليه بَينَهم هو القَولُ بعَدَمِ التَّحريفِ)
(( البيان في تفسير القرآن)) (ص: ٢٠٠)..
ثانيًا: عُلَماءُ الشِّيعةِ الذين صرَّحوا أو أوردوا في كتُبِهم ما يفيدُ بأنَّ القرآنَ محرَّفٌ وناقِصٌوإن كان عددٌ من عُلَماءِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ يقولونَ: إنَّها رواياتٌ غيرُ معتبَرةٍ عندهم لضَعفِها أو لكونِها أخبارَ آحادٍ، ونحوِ ذلك. فيَقولونَ: هي موجودةٌ في دواوينِنا، ولا يعني ذلك الأخذَ بها، كما أنَّ في دواوينِ السُّنَّةِ رواياتٍ ضعيفةً وموضوعةً لا يُعتَدُّ بها.
1- سليمُ بنُ قيسٍ الهلاليُّ (ت 90هـ)، يُنسَبُ إليه كتابٌ مشهورٌ اسمُه (كتابُ سَليمِ بنِ قيسٍ)، فيه عدَّةُ أخبارٍ تصرِّحُ بتحريفِ القرآنِ، وفيه خبرٌ طويلٌ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وفيه: (إنَّ الأحزابَ تعدِلُ سورةَ البقَرةِ. والنُّورُ سِتُّون ومائةُ آيةٍ، والحُجُراتُ ستُّونَ آيةً، والحِجْرُ تِسعونَ ومائةُ آيةٍ)
[1621] يُنظر: ((سليم بن قيس)) (ص: 122). .
ومِنَ المَعلومِ في مَصاحِفِ المُسلمينَ أنَّ سورةَ الأحزابِ أقَلُّ بكثيرٍ مِن سورةِ البَقَرةِ، وأنَّ سورةَ النُّورِ 64 آيةً، والحُجُراتُ 18 آيةً، والحِجْرُ 99 آيةً.
2- مُحَمَّدُ بنُ حَسَنٍ الصَّفَّارُ (ت 290هـ)، رَوى في كِتابِه (بَصائِرُ الدَّرَجاتِ) عن أبي
جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (ما مِن أحَدٍ مِنَ النَّاسِ يقولُ: إنَّه جَمعَ القُرآنَ كُلَّه كما أنزَل اللهُ إلَّا كذَّابٌ، وما جَمَعَه وما حَفِظَه كما أُنزِلَ إلَّا عَليُّ بنُ أبي طالبٍ والأئِمَّةُ مِن بَعدِهـ)
[1622] يُنظر: ((بصائر الدرجات)) (ص: 213). .
3- مُحَمَّدُ بنُ يعقوبَ الكُلينيُّ (ت 328هـ)، رَوى في كِتابِه (الكافي) ما يُفيدُ أنَّ القُرآنَ ناقِصٌ أو مُحَرَّفٌ؛ فعن أبي نَصرٍ قال: (دَفع إليَّ أبو الحَسَنِ عليه السَّلامُ مُصحفًا، وقال: لا تَنظُرْ فيه، ففتَحتُه وقَرَأتُ فيه: لم يكُنِ الذينَ كفَروا -يعني سورةَ البَيِّنةِ- فوَجَدتُ فيه اسمَ سَبعينَ رجلًا مِن قُرَيشٍ بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم، قال: فبَعَثَ إليَّ: ابعَثْ إليَّ بالمُصحَفِ)
[1623] يُنظر: ((الكافي)) (2/ 631). .
ورَوى الكُلينيُّ أيضًا عن
أبي عَبدِ اللهِ جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (إنَّ القُرآنَ الذي جاءَ به جِبريلُ عليه السَّلامُ إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبعةَ عَشَرَ ألفَ آيةٍ)
[1624] يُنظر: ((الكافي)) (2/ 634). ، والمَعروفُ والثَّابتُ بالنَّقلِ والتَّواتُرِ والحِفظِ أنَّ القُرآنَ سِتَّةُ آلافٍ ومِائَتانِ وسِتٌّ وثَلاثونَ آيةً، وعليه فالرِّوايةُ السَّابقةُ تَعني أنَّ ثُلُثَي القُرآنِ مَفقودٌ، والمَوجودُ هو الثُّلثُ فقَط!
ورَوى الكُلينيُّ أنَّ عِندَهم قرآنًا آخَرَ يعدِلُ القُرآنَ المَوجودَ عِندَ المُسلمينَ بثَلاثِ مَرَّاتٍ، ولا يوجَدُ فيه حَرفٌ واحِدٌ مِمَّا يوجَدُ في القُرآنِ الكريمِ! فعن أبي بَصيرٍ عن أبي عَبدِ اللهِ أنَّه قال: (وإنَّ عِندَنا لمُصحَفَ
فاطِمةَ، وما يُدريهم ما مُصحَفُ
فاطِمةَ عليها السَّلامُ؟! قُلتُ: وما مُصحَفُ
فاطِمةَ عليها السَّلامُ؟! قال: مُصحَفٌ فيه مِثلُ قُرآنِكم هذا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، واللهِ ما فيه مِن قُرآنِكم حَرفٌ واحِدٌ)
[1625] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/239). .
4- مُحَمَّدُ بنُ مَسعودِ بنِ عَيَّاشٍ المَعروفُ بالعَيَّاشيِّ مِن عُلماءِ الشِّيعةِ في القَرنِ الرَّابعِ الهجريِّ، وصاحِبُ (تَفسيرِ العَيَّاشيِّ) الذي يُعَدُّ مِن أهَمِّ التَّفاسيرِ وأقدَمِها عِندَ الشِّيعةِ، رَوى في مُقدِّمةِ تَفسيرِه عن أبي عَبدِ اللهِ أنَّه قال: (لو قُرِئَ القُرآنُ كما أُنزِلَ لألفيتَنا فيه مُسَمَّينَ)
[1626] يُنظر: ((تفسير العياشي)) (1/ 13). . يعني: لو لم يُحَرَّفْ هذا القُرآنُ لقَرَأتَ أسماءَ الأئِمَّةِ مِن آلِ البَيتِ، ولكِنَّ الصَّحابةَ هم الذينَ حَذَفوا أسماءَ الأئِمَّةِ المَعصومينَ، كما تَعتَقِدُ الشِّيعةُ الإماميَّةُ.
وفي تَفسيرِ العَيَّاشيِّ أيضًا عن أبي جَعفرٍ أنَّه قال: (إنَّ القُرآنَ قد طُرِحَ منه آيٌ كثيرةٌ، ولم يُزَدْ فيه إلَّا حَرفٌ أخطَأَتْ به الكتَبةُ، وتَوهَّمَها الرِّجالُ)
[1627] يُنظر: ((تفسير العياشي)) (1/ 180). .
5- أبو مَنصورٍ أحمَدُ الطَّبَرسيُّ (ت 560هـ)، رَوى عن
أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (لمَّا توُفِّي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَمعَ عَليٌّ عليه السَّلامُ القُرآنَ، وجاءَ به إلى المُهاجِرينَ والأنصارِ، وعَرَضَه عليهم لما قد أوصاه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا فتَحَه
أبو بَكرٍ خَرَجَ في أوَّلِ صَفحةٍ فتحها فضائِحُ القَومِ، فوثَبَ عَمرُ، وقال: يا عَليُّ، اردُدْه فلا حاجةَ لنا فيه، فأخَذَه عليه السَّلامُ وانصَرَف، ثُمَّ أحضَروا زَيدَ بنَ ثابتٍ، وكان قارِئًا للقُرآنِ، فقال له عُمَرُ: إنَّ عَليًّا جاءَ بالقُرآنِ، وفيه فضائِحُ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وقد رَأينا أن تُؤَلِّفَ القُرآنَ، وتُسقِطَ منه ما كان فضيحةً وهتكًا للمُهاجِرينَ والأنصارِ، فأجابَه زَيدٌ إلى ذلك)
[1628] ((الاحتجاج)) (ص: 156). .
قال الطَّبَرسيُّ: (لو شَرَحتُ لك كُلَّ ما أُسقِطَ وحُرِّفَ وبُدِّل مِمَّا يَجري هذا المَجرى لطال وظَهَرَ ما تَحظُرُ التَّقيَّةُ إظهارَه مِن مَناقِبِ الأولياءِ ومَثالِبِ الأعداءِ)
[1629] ((الاحتجاج)) (ص: 254). .
6- قال يحيى المُفتي البَحرانيُّ المُتَوفَّى في أواخِرِ القَرنِ العاشِرِ الهجريِّ: (إجماعُ أهلِ القِبلةِ مِنَ الخاصِّ والعامِّ أنَّ هذا القُرآنَ الذي في أيدي النَّاسِ ليس القُرآنَ كُلَّه، وأنَّه قد ذَهَبَ مِنَ القُرآنِ ما ليس في أيدي النَّاسِ)
[1630] يُنظر: ((فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)) للنوري الطبرسي (ص: 23). .
8- مُحَمَّد باقِر المَجلِسيُّ (ت 1111هـ)، جَمع في مَوسوعَتِه (بحار الأنوارِ) مِئاتِ الرِّواياتِ الدَّالَّةِ صَراحةً على تَحريفِ القُرآنِ، ومنها ما رُويَ عن أبي عَبدِ اللهِ أنَّه قال: (واللهِ ما كنَّى اللهُ في كِتابِه حتَّى قال:
يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [الفَرْقان: 28] ، وإنَّما هي في مُصحَفِ عليٍّ عليه السَّلامُ: يا ويلتى ليتَني لم أتَّخِذِ الثَّاني خليلًا)، ويعنونَ بالثَّاني عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، فيزعُمونَ أنَّ
أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه يتَبَرَّأُ منه يومَ القيامةِ.
وقال المَجلِسيُّ: (كثيرٌ مِنَ الأخبارِ الصَّحيحةِ صَريحةٌ في نَقصِ القُرآنِ وتَغييرِه، وعِندي أنَّ الأخبارَ في هذا البابِ مُتَواتِرةُ مَعنًى، وطَرحُ جَميعِها يوجِبُ رَفعَ الاعتِمادِ عن الأخبارِ رأسًا، بل ظَنِّي أنَّ الأخبارَ في هذا البابِ لا يَقصُرُ عن أخبارِ الإمامةِ، فكيف يُثبتونَها بالخَبَرِ؟)
[1631] ((مرآة العقول)) (12/525). أي: كيف يُثبتونَ الإمامةَ بالخَبَرِ إذا طَرَحوا أخبارَ التَّحريفِ؟!
إلَّا أنَّه قال في تَفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] : (
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ أي القُرآنَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ عن الزِّيادةِ والنُّقصانِ والتَّغييرِ والتَّحريفِ)
[1632] ((بحار الأنوار)) (9/113(. .
9- نِعمةُ اللهِ الجَزائِريُّ (ت 1112هـ)، قال مُتَّهِمًا أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَحريفِ القُرآنِ: (لا تَعجَبْ مِن كثرةِ الأخبارِ المَوضوعةِ؛ فإنَّهم بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد غَيَّروا وبَدَّلوا في الدِّينِ ما هو أعظَمُ مِن هذا، كتَغييرِهم القُرآنَ، وتَحريفِ كَلِماتِه، وحَذفِ ما فيه مَدائِحُ آلِ الرَّسولِ والأئِمَّةِ الطَّاهرينَ، وفضائِحِ المُنافِقينَ، وإظهارِ مَساوِئِهم)
[1633] ((الأنوار النعمانية)) (1/ 79). ويُنظر: ((الشيعة الاثنا عشرية وتحريف القرآن)) لمحمد عبد الرحمن السيف (ص: 9). .
والجَزائِريُّ نسَبَ إلى أكثَرِ الإماميَّةِ القَولَ باعتِبارِ القِراءاتِ العَشرِ المُتَواتِرةِ والقِراءةِ بها، ثُمَّ اعتَرَضَ على ذلك مِن عِدَّةِ وُجوهٍ، فقال: (الثَّالثُ: أنَّ تَسليمَ تَواتُرِها عن الوحيِ الإلهيِّ وكونِ الكُلِّ قد نَزَل به الرُّوحُ الأمينُ يُفضي إلى طَرحِ الأخبارِ المُستَفيضةِ بل المُتَواتِرةِ الدَّالَّةِ بصريحِها على وُقوعِ التَّحريفِ في القُرآنِ كلامًا ومادَّة وإعرابًا، مَعَ أنَّ أصحابَنا رِضوانُ اللهِ عليهم قد أطبَقوا على صِحَّتِها والتَّصديقِ بها. نَعَم، قد خالف فيها المُرتَضى والصَّدوقُ والشَّيخُ الطَّبَرسيُّ وحَكموا بأنَّ ما بَيْنَ دَفَّتَي هذا المُصحَفِ هو القُرآنُ المُنَزَّلُ لا غَيرُ، ولم يقَعْ فيه تَحريفٌ ولا تَبديلٌ. ومِن هنا ضَبَطَ شَيخُنا الطَّبَرسيُّ رَحِمَه اللهُ آياتِ القُرآنِ وأجزاءَه، فرَوى عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه أنَّ جَميعَ سُوَرِ القُرآنِ مِائةٌ وأربَعَ عَشرةَ سورةً، وجَميعَ آياتِ القُرآنِ سِتَّةُ آلافِ آيةٍ ومِائَتا آيةٍ وسِتٌّ وثَلاثونَ آيةً. وجَميعُ حُروفِ القُرآنِ ثَلاثُمِائةِ ألفِ حَرفٍ وأحَدٌ وعِشرونَ ألفَ حَرفٍ ومِائَتانِ وخَمسونَ حَرفًا.
والظَّاهرُ أنَّ هذا القَولَ إنَّما صَدَرَ منهم لأجلِ مَصالحَ كثيرةٍ؛ منها سَدُّ بابِ الطَّعنِ عليها بأنَّه إذا جازَ هذا في القُرآنِ فكيف جازَ العَمَلُ بقَواعِدِه وأحكامِه مَعَ جَوازِ لُحوقِ التَّحريفِ لها؟ وسَيأتي الجَوابُ عن هذا. كيف وهؤلاء الأعلامُ رَوَوا في مُؤَلَّفاتِهم أخبارًا كثيرةً تَشتَمِلُ على وُقوعِ تلك الأُمورِ في القُرآنِ، وأنَّ هذه الآيةَ هكذا أُنزِلَت، ثُمَّ غَيِّرت إلى هذا!)
[1634] ((الأنوار النعمانية)) (2/311). .
والجَزائِريُّ مِن قِسمِ الإماميَّةِ الأخباريِّين الذينَ يأخُذونَ بظَواهرِ الرِّواياتِ الوارِدةِ في كُتُبِهم
[1635] يُنظر: هامش ((الأنوار النعمانية)) (2/311). .
10- أبو الحَسَنِ العامِليُّ (ت 1138ه أو 1139هـ) دافعَ بشِدَّةٍ عن وُجودِ تَحريفٍ في القُرآنِ أو نَقصِ فيه، وأنكرَ على بَعضِ عُلماءِ الإماميَّةِ الذينَ ينفونَ وُقوعَ ذلك، كالصَّدوقِ، ومِمَّا قاله: (اعلَمْ أنَّ الحَقَّ الذي لا مَحيصَ عنه بحَسبِ الأخبارِ المُتَواتِرةِ الآتيةِ وغَيرِها أنَّ هذا القُرآنَ الذي في أيدينا قد وقَعَ فيه بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيءٌ مِنَ التَّغييراتِ، وأسقَطَ الذينَ جَمَعوه بَعدَه كثيرًا مِنَ الكَلِماتِ والآياتِ، وأنَّ القُرآنَ المَحفوظَ عَمَّا ذُكِرَ، الموافِقَ لِما أنزَله اللهُ تعالى: ما جَمَعَه عليٌّ عليه السَّلامُ وحَفِظَه إلى أن وصَل إلى ابنِه الحَسَنِ عليه السَّلامُ، وهكذا إلى أن انتَهى إلى القائِمِ عليه السَّلامُ، وهو اليومَ عِندَه صَلواتُ اللهِ عليهـ)
[1636] المقدمة الثانية لـ ((مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار)) (ص: 62)، وطُبِعت هذه كمقدمة لـ ((تفسير البرهان)) للبحراني. .
وقال أيضًا: (وعِندي في وُضوحِ صِحَّةِ هذا القَولِ يعني تَحريفَ القُرآنِ وتَغييرَه بَعدَ تَتَبُّعِ الأخبارِ وتَفحُّصِ الآثارِ، بحَيثُ يُمكِنُ الحُكمُ بكونِه مِن ضَروريَّاتِ مَذهَبِ التَّشَيُّع، وأنَّه مِن أكبَرِ مَقاصِدِ غَصَبِ الخِلافةِ)
[1637] ((مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار)) (ص: 83). .
ولكِنَّه مَعَ ذلك يقولُ بحُجِّيَّةِ القُرآنِ المَوجودِ اليومَ إلى أن تَظهَرَ النُّسخةُ الصَّحيحةُ المَوجودةُ مَعَ الغائِبِ المُنتَظَرِ
[1638] يُنظر: ((مرآة الأنوار)) (ص: 67). .
11- قال سُلطان مُحَمَّد الخُراسانيُّ (ت 1327هـ): (اعلَمْ أنَّه قد استَفاضَتِ الأخبارُ عن الأئِمَّةِ الأطهارِ بوُقوعِ الزِّيادةِ والنَّقيصةِ والتَّحريفِ والتَّغييرِ فيه، بحَيثُ لا يكادُ يقَعُ شَكٌّ)
[1639] ((بيان السعادة في مقامات العبادة)) (ص: 19). .
12- عَدنان البَحرانيُّ (ت 1348هـ) قال: (القَولُ بالتَّحريفِ مِن ضَروريَّاتِ مَذهَبِ الشِّيعةِ)
[1640] ((مشارق الشموس الدرية)) (ص: 126) بتصرف. .
ثالثًا: أسبابُ اعتِقادِ تَحريفِ القُرآنِ العَظيمِمِن أسبابِ اعتِقادِ بَعضِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ وُقوعَ تَحريفٍ في القُرآنِ العَظيمِ:
1- عَدَمُ ذِكرِ الإمامةِ في القُرآنِ الكريمِ! يعتَقِدُ الشِّيعةُ أنَّ مَسألةَ الإمامةِ داخِلةٌ في المُعتَقَداتِ الأساسيَّةِ التي يكفُرُ مُنكِرُها، فهي كالإيمانِ باللهِ وبرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وللإمامةِ عِندَ الشِّيعةِ مَفهومٌ خاصٌّ ينفرِدونَ به عن سائِرِ المُسلمين